منذ عزل رئيس جمهورية بيرو المنتخب ديمقراطيا، بيدرو كاستليو في السابع من كانون الأول الفائت تستمر وتتسع التظاهرات واشكال الاحتجاج الأخرى، في حين يشكل الهم السياسي جوهرها، تتداخل فيها مطالب وشعارات فئات وشرائح اجتماعية، تتعلق بحقوقها وخصوصياتها الاجتماعية. يتوافد المحتجون بواسطة وسائط نقل مختلفة وسيرا على الاقدام الى العاصمة للمطالبة باستقالة رئيسة الجمهورية المعينة (رئيسة الانقلاب) ومحاكمتها على العنف المنفلت الذي يمارسه الجيش والأجهزة الأمنية بحق المتظاهرين. يستند القمع، في أحيان كثيرة، إلى العنصرية المترسخة في أوساط المحافظين واليمين السياسي، وخصوصا في مناطق السكان الأصليين (الهنود الحمر)، وفي المناطق البعيدة عن العاصمة. وعلى طريقة المتسلطين، تشن حملة إعلامية لتجريم المحتجين وتشويه سمعتهم. ولا يبدو ان هناك حلًا يلوح في الأفق، ويتخذ الصراع طابع مفتوح بين الساعين للحرية والتقدم، ومعسكر الاستبداد والعنصرية وتأبيد الاستغلال.

 سبب مباشر

 في 7 كانون الأول 2022، أراد أعضاء في البرلمان طرح مقترح بحجب الثقة عن بيدرو كاستيلو ، للمرة الثالثة خلال فترة ولايته، وكان نصيب نجاح المقترح ضئيلا. وكان الأمر الأكثر إثارة للدهشة، هو أن كاستيلو أعلن قبل جلسة البرلمان أنه سيحل البرلمان، ويشكل حكومة طوارئ تهيئ لأجراء انتخابات مبكرة، استغل اليمين خطأ الرئيس اليساري، ووظف الحدث لتجميع أكثرية، باسم الدفاع عن الديمقراطية، وتم عزل الرئيس واعتقاله بعد ثلاث ساعات، وتم تعيين نائبته بولوارت، التي تماهت مع اليمين، خلفا له.

منذ ذلك الحين، خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع للاحتجاج، وخاصة السكان الأصليين والعمال في منطقة الأنديز في جنوب بيرو. حيث يواجه السكان الدمار البيئي والتسمم والاستغلال من خلال التعدين طيلة العقود الماضية. ويقوم المحتجون بأغلاق الطرق والحدود والمطارات. ويطالبون باستقالة الرئيسة وإجراء انتخابات جديدة فورية ووضع دستور جديد. لكن بولوارت وأغلبية أعضاء الكونغرس يتشبثون بالسلطة ويستمرون في سفك دماء المحتجين.

اشتكت لجنة التنسيق الوطنية لحقوق الإنسان، وهي شبكة تضم 78 منظمة لحقوق الإنسان في بيرو، من الاستخدام المفرط للقوة والقتل غير المشروع والاختفاء القسري. وبعد التحقيق، أفادت منظمة العفو الدولية أن الجيش والشرطة الوطنية "أطلقوا مرارًا أسلحة فتاكة بشكل غير قانوني". وعدد الضحايا من السكان الأصليين وأصحاب الملكيات والمشاريع الصغيرة مرتفع بشكل خاص، مما يشير إلى "أن السلطات تصرفت بتحيز عنصري واضح".

 منطلقات عنصرية

 لا يشكل العنف العنصري استثنائيا في بيرو، بل سلوك بنيوي للطبقات والفئات الحاكمة.  كتب الروائي البيروفي مانويل سكورزا في روايته "غناء لأغابيتو روبلز"، التي صدرت عام 1977: "المجازر في جبال الأنديز تتبع إيقاع الفصول. هناك أربعة فصول في العالم وخمسة في جبال الأنديز: الربيع والصيف والخريف والشتاء والمذبحة ". لقد رسم بالكلمات تعرض سكان البلاد الأصليين والسكان من أصول افريقية الى الحرمان والاستخفاف والقتل العنصري والطبقي في المجتمع الذي شكله الاستعمار عبر تاريخ البلاد، والى اليوم، ولذلك فان أسباب الاحتجاجات عميقة ومتجذرة في دورات الصراع الاجتماعي في البلاد.

في اثناء ذلك، وصلت الاحتجاجات أيضًا إلى العاصمة ليما. لقد زاد غضب الكثير من الناس، ان الرئيسة المعينة دينا بولوارت تقدم نفسها على أنها مدافعة عن الديمقراطية ضد أقلية مزعومة، وتدعي: ان المتظاهرين أطلقوا النار على بعضهم البعض، وبعد أسبوعين من مذبحة جولياكا، دافعت عن أداء الشرطة الوطنية بالقول: "سلوك الشرطة هناك لا تشوبه شائبة".

على الرغم من نتائج استطلاعات الراي، ترفض بولوارت استقالتها وكذلك تقف الأغلبية في البرلمان ضد إجراء انتخابات مبكرة، لكي تستمر الحكومة الحالية حتى عام 2026.

 أزمات متلاحقة

 على مدى العقدين الأخرين تعيش البلاد سلسلة من الازمات المتلاحقة.  لقد تم عزل، أو سجن آخر سبعة رؤساء منتخبين (منذ عام 2000)، باستثناء آلان غارسيا، الذي أطلق النار على نفسه قبل اعتقاله.  ومع وصول اول رئيس يساري ينتمي الى مجتمع سكان البلاد الأصليين، بدا وكأن ليل الليبرالية الجديدة قد انتهى.

أعطى فوز بيدرو كاستيلو في الانتخابات الرئاسية في تموز 2021 على المرشحة اليمينية كيكو فوجيموري، ابنة الدكتاتور القابع في السجن ألبرتو فوجيموري، للأغلبية المهمشة في البلاد شعورًا بأن المركز في العاصمة يسمعهم. وفي هذا السياق، قالت أناهي دوراند، وزيرة شؤون المرأة والسكان المستضعفين في حكومة كاستيلو: "لقد كان انتصارا للطبقات الشعبية المهمشة وغير المستقرة".

تولى كاستليو وهو معلم وقائد نقابي ماركسي مهام منصبه في تموز 2021 مع وعد بتنفيذ برنامج لصالح للسكان الأفقر، وتنفيذ إصلاح زراعي والبدء في عملية وضع دستور جديد. لكن نخبة رجال الأعمال "البيض" في ليما واليمين السياسي لم يعترفوا بانتصاره. أعلنوا الحرب عليه، لرفضهم فكرة وجود أحد أبناء السكان الأصليين في القصر الرئاسي.

 لقد حاولوا منذ البداية عزله من منصبه. فشلت المحاولة الأولى، بتهمة تزوير الانتخابات. وأعقب ذلك ثلاثة استجوابات في البرلمان الذي تهيمن عليه المعارضة. لكن لم يحظ أي منها بأكثرية الثلثين.

من أجل إحباط محاولات  أخرى لعزله بتهمة الخيانة، أعلن الرئيس أنه سيحل الكونغرس، وإجراء انتخابات عامة، واستعادة الحكم في البلاد من خلال الإصلاح القضائي.  وعلى الرغم من ان إعلانه يعكس رغبة أكثرية شعبية، لكنه يتعارض كأجراء مع الدستور، سارع الجيش والشرطة والمحكمة العليا لرفضه، وتوفرت أكثرية برلمانية لعزله وألقي القبض على الرئيس وهو في طريقه للسفارة المكسيكية، التي عرضت عليه اللجوء السياسي، ووجهت إليه تهمة "التمرد".

ترى أوساط المعارضة واوسع الفئات الشعبية ان اعتقال الرئيس كان انقلابًا من قبل اليمين والقاعدة الاجتماعية للدكتاتورية المنهارة التي فشلت مرشحتها في حسم السباق الانتخابي لصالحها. لقد كتب المؤرخ البيروفي خوسيه كارلوس أغويرو في جريدة (دبليو اوه زد) السويسرية في 12 كانون الأول 2022: " الذين صوتوا لصالح كاستيلو أصبحوا، ربما أكثر وضوحًا من أي وقت مضى في الجمهورية، بقدر ما تعتقده النخبة ووسائل الإعلام وجزء كبير من مواطني العاصمة عنهم وعن أصواتهم: لقد كانت أصواتا ضائعة، وبلا محتوى، وملطخة في أصلها، لأنها صدرت من أشخاص فاقدي الأهلية، هنود حمر، غارقين في الجهل، وفوق هذا كله إرهابيين ".

من الناحية الشكلية، يعد تعيين نائبة الرئيس من قبل الأكثرية البرلمانية مقبول، لكنه يواجه باستطلاعات الرأي التي تقول ان قرابة 90 في المائة من السكان، يعتبرونها غير شرعية، وتستند الى تأييد النخب الاقتصادية المهيمنة والعسكر، والكتل البرلمانية لقوى اليمين وحزب عائلة الدكتاتور السابق. وخارجيا يتمتع "الانقلابيون" بدعم منظمة الدول الأمريكية الخاضعة لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية. وعمليا لا يتمتع البرلمان الحالي بثقة أكثرية السكان.

لم تلق كلمات بولارتي صدى يذكر بين أوساط السكان، الذين سئموا الفساد والجوع. لقد اجابت اوساط المجتمع المهمشة والريفية والسكان الأصليين باحتجاجات في جميع أنحاء البلاد. يقع مركز الاحتجاجات في الجنوب، في المناطق الجبلية الجنوبية، حيث يشكل الأكثرية السكان الأصليون والمزارعون. وهذه مناطق نائية، والأكثر فقراً في البلاد.

 هذه المناطق كانت على الدوام الأكثر تهميشًا سياسيًا واقتصاديا واجتماعيًا وثقافيًا. هذا لا يجعل بالضرورة مزارعي الكوكا وعمال المناجم، الذين لا يتمتعون بحماية قانونية، ومجتمعات السكان الأصليين بالضرورة يساريين، لكنه يجعلهم ناقدين للنظام السياسي والاقتصادي، ولمركزية العاصمة ليما، حيث نخب الهيمنة. كان الجنوب هو معقل انتصار كاستيلو، حيث حصل على اصوات أكثر من 80 في المائة في بعض المناطق.

ما يجري اليوم هو استمرار لمقاولة الأزمة التاريخية والمتجددة في البلاد، حيث يقاوم فقراء البلاد عموما، وفقراء المرتفعات ضد خمسة قرون من الاضطهاد. وليس من قبيل الصدفة أن تكون الاحتجاجات موجهة أيضًا ضد استغلال الثروة الطبيعية من قبل الشركات الأجنبية، التي بالكاد تدفع الضرائب.

لقد اسقطت الأزمة السياسية ثمار الليبرالية الجديدة الفاسدة، وتصاعد غضب اكثر من 33 مليون مواطن، ولا ينحصر النضال من اجل التغيير بسكان المناطق الريفية، فاستطلاعات الرأي في كانون الثاني 2023، تقول ان 60 في المائة من السكان، يعتقدون  أن الاحتجاجات مبررة ، ويعارض أكثر من 71 في المائة رئيسة الجمهورية ورئيس البرلمان الحالي.

التوتر السياسي يسود البلاد: دعت المنظمات الاجتماعية ومنظمات السكان الأصليين واليساريون إلى استئناف الاحتجاجات. حشد أكبر اتحاد نقابات عمالية للإضراب العام. ودعا الاتحاد الوطني لمزارعي البن واتحاد المزارعين لإضراب زراعي عام. واقام المحتجون أكثر من 145 حاجزا، وبهذا شلوا حركة المرور في أجزاء كبيرة من البلاد.

في بداية العام، تجمع المواطنون من جميع أنحاء البلاد في العاصمة، تحت شعار "السيطرة على ليما" للمطالبة باستقالة الرئيسة الحالية وحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة فورا، وعقد جمعية تأسيسية جديدة تضع دستورا بديلا للدستور الذي وضعه الدكتاتور ألبرتو فوجيموري في عام 1993.

ورئيسة الانقلاب بعيد كل البعد عن الدخول في حوار مع السكان. وكانت تعمل على صب الزيت على النار منذ اندلاع الاحتجاجات في اليوم الأول من رئاستها.  لقد ردت والكونغرس اليميني، بإعلان حالة الطوارئ، وتعبئة الشرطة والجيش. تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لأفراد من الشرطة والجيش يطلقون النار بكثافة على المتظاهرين.

وكما عشنا ذلك في العراق، تشيد الرئيسة بافعال قوات الامن   "التي لا تشوبها شائبة"، وتشوه سمعة المتظاهرين، الذين تقول، إنهم يخضعون لسيطرة عصابات تهريب المخدرات، ومجموعات استخراج المواد الخام غير الشرعية، والجماعات الإرهابية الشيوعية، وتتهم الرئيس البوليفي السابق إيفو موراليس، بدعم الحركة الاحتجاجية. وان هناك "أقلية" من الساخطين في الجنوب ضد بقية سكان البلاد، حيث "يريد الناس العمل بسلام فقط".

يبدو من الصعب اسكات احتجاجات الأكثرية المضطهدة، وهذا ما عكسته لافتات المحتجين: "إذا متنا لا تضيئوا، بل اضيئوا البرلمان".

 استدعاء رئيسة الجمهورية

ستمثل رئيسة بيرو المؤقتة، دينا بولوارت، أمام محكمة بسبب الاستخدام المكثف للعنف من قبل القوات المسلحة والشرطة خلال الاحتجاجات المستمرة في البلاد. هذا ما أعلنته المدعية العامة باتريشيا بينافيدس.

وأكدت كيلي مونتينيغرو ، محامية بولوارت ، لوسائل الإعلام المحلية أن الرئيسة ستلتزم بأمر الاستدعاء. واضافت: "لم تكن هناك أي نية على الإطلاق لعرقلة أو منع عمل مكتب المدعي العام".

بالإضافة إلى بولوارت ، يخضع رئيس مجلس الوزراء ، ألبرتو أوتارولا ، ووزير الداخلية فيكتور روخاس ، ووزير الدفاع خورخي شافيز للتحقيق للاشتباه في ارتكاب إبادة جماعية. ويجب على أعضاء الحكومة أن يتحملوا مسؤولية سلوك السلطة التنفيذية أثناء المظاهرات في مناطق عدة من البلاد.

 وسيجري التحقيق أيضا بيدرو أنغولو، الرئيس السابق لمجلس الوزراء، وسيزار سرفانتس ، وزير الداخلية السابق ، الذين كانوا في الحكومة عندما بدأت الاحتجاجات. في الأيام القليلة الماضية كان هناك لبس حول طرائق الإدلاء بالشهادة والاستعداد للتعاون بين الرئيس والمدعي العام. وطالب دفاع الرئيس، في أول مذكرة استدعاء في كانون الثاني الفائت، وأمر الاستدعاء الثاني الذي صدر اخيرا، بأن يكون حضور رئيسة الجمهورية افتراضيا، لأن "وجود الرئيس في مكتب المدعي العام يمكن أن يخلق مخاطر أمنية واضطرابات اجتماعية".

في هذه الاثناء، أكد خوسيه تيلو، وزير العدل وحقوق الإنسان، أن الرئيسة مستعدة للإدلاء بشهادتها، ولكن عبر العالم الافتراضي فقط. وقالت تيلو لوسائل إعلام محلية " علينا أن نحترم قرار الرئيسة، وعلينا أن نمنح شخصيتها الاحترام الذي تستحقه". شخصيات قانونية بارزة اكدت ضرورة ان يكون الاستجواب حضوريا، اسوة بما قام به رئيس الوزراء قبل ذلك ولا تزال التحقيقات مستمرة.

 *- نشرت لأول مرة في مجلة الشرارة النجفية

عرض مقالات: