في الأول من حزيران الجاري، تم تسمية بيدرو سانشيز، السكرتير العام للحزب الاشتراكي (حزب ديمقراطي اجتماعي) رئيسا جديدا للحكومة الإسبانية بعد نجاح التصويت  بعدم الثقة، الذي طرحه، ضد حكومة "حزب الشعب" اليمينية المحافظة بزعامة ماريانو راخوي، التي حكمت البلاد لمدة سبع سنوات.  وهو امر لم يكن ممكنا و متوقعا حتى قبل عشرة أيام من حدوثه. وتشكلت الاكثرية التي اطاحت بحكومة اليمين من الحزب الاشتراكي،  واحزاب كتلة اليسار الجذري التي تضم حزب بودوموس، واليسار الاسباني المتحد، الذي يعتبر الحزب الشيوعي الاسباني قوته الأساسية، واحزاب يسارية محلية صغيرة. بالاضافة الى الاحزاب القومية اليمينية المتنفذة في ولايتي كتالونيا والباسك.

 ادانة حكومة اليمين

 وكان القضاء الاسباني قد اصدر قراراً في 24 ايار الفائت في قضية الفساد المعروفة بـ"الحزام". وقد صدر حكم بالسجن  لمدة ما مجموعه 350 عاما بحق 28  من قادة وكوادر سابقين في حزب الشعب اليميني المحافظ، بضمنهم مسؤول مالية الحزب لويس باركناس ورجل الاعمال فرانسسكو كوريا. وتضمن الحكم ادانة للحزب الحاكم والزامه بدفع غرامة قدرها 254 الف يورو. وقد طعن القضاة بشهادة رئيس الوزراء التي قدمها امام المحكمة، ووصفوا الحزب الحاكم بـ "منظمة تشكلت لارتكاب انتهاكات للقانون". ولم يتعلق الأمر بـ"ممارسات فردية" كما كان راخوي يؤكد باستمرار، بل بمجموعة ثابتة دائمة النشاط لادارة حسابات غير شرعية منذ العام الذي تأسس فيه الحزب 1989 . وكان للجرأة في التصويت على شرعية الحكومة اثر حاسم في احداث التغيير.

 الانتخابات العامة

 كانت الانتخابات الوطنية في 20 كانون 2015 متميزة بمشاركة حزبين مؤثرين لاول مرة في انتخابات برلمانية هما حزب بودوموس اليساري وحزب "المواطنين" اليميني الليبرالي. وجاءت نتائجها لتؤكد نهاية النظام السياسي، الذي تشكل بعد وفاة الدكتاتور فرانكو في عام 1975 ، وعودة الديمقراطية البرلمانية في المملكة الاسبانية. وجاءت نتائج الانتخابات لتفرض الدخول في تحالفات صعبة.

الحزب الاشتراكي جسد في تعامله مع نتائج الانتخابات طبيعة  وسلوك الاحزاب الديمقراطية الاجتماعية، في محاولة سحب بودوموس اليساري للتحالف معه، وفي نفس الوقت سعى للاتفاق مع حزب "المواطنين" اليميني لطمأنة مراكز راس المال في اسبانيا واوربا. استراتيجة الاشتراكي لم تقطف ثمارها. حزب بودوموس اليساري كان حديث العهد وبالتالي طالب بعدد محدد من الوزرات في الحكومة المرجوة. في حين سعى اليسار الاسباني المتحد الى تجميع القوى التقدمية، وفرض تنظيم انتخابات مبكرة، ولكن واقع ساحة اليسار في حينه حال دون ذلك.  

وفي نهاية المطاف، عاشت إسبانيا تسعة أشهر بدون حكومة حتى  اجراءانتخابات  26 حزيران. واتسمت هذه الانتخابات بتغيير  تمثل في تحالف احزاب معسكر اليمين، ونشوب صراع بين يسار ويمين الحزب الاشتراكي، حيث سعى يمينيو الاشتراكيين لدعم حكومة اليمين، في حين اراد سكرتير عام الحزب بيدرو سانشيز وانصاره، معارضة حكومة اليمين. وحسم الصراع داخل الحزب الاشتراكي لصالح الجناح اليميني، واصبح اليميني المحافظ راخوي رئيسا للوزراء بدعم حليفه حزب "المواطنين" وامتناع النواب الاشتراكيين عن التصويت، مما ادى الى استقالة سانشيز من زعامة الحزب الاشتراكي.

اغتنام لحظة فاصلة

 لقد استطاع بيدرو سانشيز توظيف القرار القضائي ولم يتردد ولو لحظة واحدة في طرح حجب الثقة عن الحكومة على البرلمان، دون التشاور مع اية كتلة او حزب سياسي. ومن جانبها سارعت كتلة اليسار ، مستفيدة من تجاربها السابقة، الى دعم الطلب دون شروط مسبقة، لان الاولوية كانت لطرد الفساد واسقاط حكومة اليمين.

تمتلك كتلة الحزب الاشتراكي تملك 84 تائبا، وكتلة اليسار 71 نائبا، ولتحقيق الاكثرية المطلوبة لاسقاط حكومة اليمين يتطلب عدد نواب176،  كانت هناك حاجة لاصوات الاحزاب القومية اليمينية في كاتالونيا، والباسك. لم يذهب سانشيز للحوار معهم لان قواعد الحزب الاشتراكي وناخبيه يرفضون هذه القوى ومشاريع الانفصال عن الدولة الاسبانية التي تتبناها،  لذلك عمد سانشيز الى وضع هذه القوى امام الأمر الواقع، فاما التصويت لصالح حجب الثقة، او الوقوف الى جانب حكومة اليمين والفساد، التي مارست القمع المكشوف  ضدهم في كاتالونيا. وفي نهاية المطاف كان النجاح حليف خطة سانشيز. ويعيش معسكر اليمين الان  حالة من فوضى وصراع داخليين،  وبالتاكيد فان هذه الاخبار محط ارتياح قوى اليسار الاسباني.

 حكومة الاقلية وما بعدها

 لم يمر وقت طويل على تسميته حتى شكل شانشيز حكومة اقلية برئاسته. واصبح واضحا انه لم يتجاوب مع الاستعداد الذي ابداه رئيس كتلة اليسار بابلو اغليسياس للمشاركة في حكومة تتبتى برنامجا ذا توجهات يسارية. وحملت  حكومة الاقلية التي اعلن عنها ملامح تقدمية مثل حصة الاسد التي تمتعت بها النساء في تشكيلتها،  وتبنيها سياسة تقدمية في قطاع الخدمات . ولكن كل الرسائل التي ارسلتها تشكيلة الحكومة تؤكد التزام سانشيز بسياسة اقتصادية ليست يسارية، والتزامه بسياسات حكومة اليمين السابقة بخصوص تنفيذ سياسات منطقة اليورو. ولكن  العلاقة غير الودية للحزب الاشتراكي مع حزب "المواطينن" اليميني الليبرالية ستجعل سانشيز مضطرا الى الاعتماد على اصوات كتلة اليسار لتمرير هذا التشريع او ذاك، وهو امر يعتبره معلقون يساريون فرصة للتعاون بين الحزب الاشتراكي وكتلة اليسار في البرلمان، باعتبار ذلك خطوة في الاتجاه الصحيح. وهناك قناعة لدى اوساط  من المتابعين، في ضوء المعطيات المتوفرة لحد الآن، ان سانشيز سوف لن يتبنى النموذج البرتغالي الناجح، لحكومة الاقلية الاشتراكية في البرتغال، والمدعومة بموجب اتفاقات وشروط واضحة المعالم، من الحزب الشيوعي البرتغالي وحزب كتلة اليسار، بل سيعمل على تحسين رصيد الحزب الاشتراكي الانتخابي والذهاب لاحقا الى انتخابات مبكرة. وتأتي استطلاعات الرأي التي جرت في البلاد بعد رحيل حكومة اليمين لتعطي لهذا التوجه زخما اضافيا، حيث شغل الحزب الاشتراكي الموقع الثاني، وجاءت كتلة اليسار في الموقع الثالث، فيما احتل حزب "المواطنين" الليبرالي اليميني، بعد ان تراجع حزب الشعب، الذي قاد الحكومة السابقة، الى الموقع الرابع، بسبب ادانته بملفات فساد.

ومن واضح ان سانشيز يوظف ارتياح  غالبية سكان البلاد لرحيل  السياسيين الفاسدين من سدة الحكم، وانهم يتطلعون الى دخول اسبانيا مرحلة جديدة، على الرغم من عدم وضوح سعة وعمق التغيير المرتقب. ولعل اهم درس عكسته التطورات الاخيرة في اسبانيا هو ان التغيير ليس مستحيلا، وان التاريخ ليس جامدا، بل متغير، وان الناس هم من يصنعونه.

 تحولات في معسكر اليسار

 القوتان الأساسيتان في قوى اليسار الجذري هما حزب بودوموس الخارج من معطف الحركة الاحتجاجية ضد الأزمة المالية، والذي طرح نفسه منذ انتخابات البرلمان الأوربي باعتباره بديلا لاحزاب النظام السياسي التقليدية، وشمل بهذا اليسار الاسباني المتحد، في اطار طرحه لنفسه وعاءا ممكنا لجميع قوى اليسار.  و على اساس هذه القراءة دخل الحزب انتخابات كانون الثاني 2015 البرلمانية العامة منفردا، ورفض فكرة التحالف مع اليسار الاسباني المتحد، وبهذا ضاعت فرصة كانت ممكنة جدا لتشكيل حكومة يسارية بديلا لحكومة اليمين المحافظ. وعاد الحزب ليصحح موقفه في الانتخابات المبكرة في حزيران 2016 ويتحالف مع اليسار الاسباني المتحد، ومجاميع يسارية اخرى، في اطار تحالف "معا قادرون" ولكن توازن القوى كان قد تغير وحل تحالف اليسار ثالثا، بحصوله على 14 في المائة من اصوات الناخبين منحته 45 مقعدا في البرلمان الوطني.وجاء المؤتمر الثاني لحزب بودوموس (نحن قادرون)، المنعقد في 10 – 12 شباط 2017 ، ليحسم الصراع داخل الحزب لصالح تثبيت استراتيجة العمل المشترك مع قوى اليسار والحركات الاجتماعية.

وادى  الصراع بشأن الاستفتاء على استقلال كاتالونيا، ونتائج انتخابات الولاية التي تبعته الى انقسام مجتمعي حاد، انعكس على قوى اليسار الجذري سلبا، و التي وجدت نفسها موضوعيا بين معسكر الليبرالية الجديدة الحاكم انذاك في مدريد، وتحالف القوى القومية بيسارها ويمينها الداعي الى الاستقلال.  وكانت الحملة الانتخابية للقائمة المشتركة لقوى اليسار  تقوم على رفض تطرف المعسكرين، وأساليب القمع التي مارستها الحكومة المركزية ضد الانفصاليين. ودعت إلى اعتماد الحوار والوسائل الديمقراطية المتاحة لتجاوز هذا الصراع الضار، واضعة البرنامج الاقتصادي الاجتماعي في مركز اهتمامها. كما طرح اليسار الاسباني المتحد مقترحا ملموسا لاعتماد نظام جمهوري  فيدرالي ديمقراطي، يحافظ على وحدة البلاد ويضمن للولايات فضاءً واسعا للتعبير عن مصالحها وخصوصيتها الثقافية والتاريخية.

ان اتفاقية التحالف القائم بين حزبي اليسار بشكله واسمه الحالي يستمر حتى عام 2019، حيث ستجري انتخابات الولايات والانتخابات المحلية، وانتخابات البرلمان الأوربي،  هذا اذا لم تفرض التطورات في البلاد اجراء انتخابات عامة مبكرة. واهم ما تضمنه برنامج التحالف النافذ: اعتماد اشكال للطاقة البديلة، الغاء المادة 135 من الدستور التي اقرتها اكثرية اليمين والوسط، والتي تنص على اولوية خدمة الديون على الاستثمار في موازنة الدولة، المطالبة باحد ادنى للاجور.

ويجري العمل من اجل اقرار صيغة جديدة لتحالف اليسار باسم جديد يضم اسماء قواه الرئيسة مجتمعة:"بودوموس/ اليسار المتحد / الخضر"، وقد عبر السكرتير العام الجديد للحزب الشيوعي الاسباني إنريكي سانتياغو ، في مقابلة صحفية عن ضرورة تشكيل تحالف يساري،  لتشكيل "كتلة تاريخية" ينبغي أن تكون قادرة على "حكم البلاد".

ويتحدث الاعلام التقليدي في اسبانيا عن امكانية "ذوبان" اليسار المتحد في حزب بودوموس، مقدما بذلك تفسيرا مقصودا لحزمة المقترحات التي طرحها البرتو غارثون لتجديد برنامج وعمل اليسار المتحد، والتي يجري النقاش بشانها، ومن المفترض ان تقر في مؤتمر الحزب المقبل. واهم النقاط التي اقترحها غارثون هي ان تحل الاحزاب المكونة لليسار الاسباني المتحد :( الحزب الشيوعي الاسباني، اليسار النسوي، اليسار المنفتح، واليسار الجمهوري) شخصيتها المعنوية وتذوب في اطار حزب واحد لمواجهة مشكلة قروض مالية بذمة الحزب بلغت ملايين اليورات، وكذلك جعل هيكلة الحزب وآليات العمل داخله اكثر سهولة. والزام ممثلي الحزب المنتخبين في السلطة التشريعية، والعاملين بمؤسسات الدولة بالحصول على حد اعلى للراتب لا يتجاوز ثلاثة اضعاف راتب عامل غير ماهر، وان يخصص ما زاد على ذلك للنفع العام، وهي تجربة معمول بها في بعض احزاب اليسارفي اوربا ومنها الحزب الشيوعي النمساوي، وتسهيل مشاركة اعضاء الحزب في التصويت على القرارات المهمة عبر الانترنيت، ودفع اعضاء الحزب الناشطين في الحركات الاجتماعية اشتراكا حزبيا مخفضا، لتسهيل مشاركتهم في النشاط الجماهيري خارج البرلمان. والسماح لناشطي الحركات الاجتماعية، من غير الحزبيين، المقتنعين بضرورة تحقيق التحول الاجتماعي بحضور اجتماعات هيئات الحزب القاعدية.

وفي مجرى النقاش تواجه هذه المقترحات نقدا يتركز على اتهام غارثون بمحاولة  الهيمنة الفردية على الحزب. وتبدو فكرة ذوبان الاطراف المكونة لليسار المتحد في اطار الحزب صعبة التحقيق، على الأقل فيما يتعلق بقوته الاساسية،الحزب الشيوعي الاسباني، الذي حافظ على استقلاله التنظيمي، منذ تاسيس اليسار المتحد في عام 1986 .

عرض مقالات: