لو توقع المرء قبل 10 سنوات قيام حركة اشتراكية يسارية قوية في الولايات المتحدة الامريكية، لتلقى سخرية الكثيرين. لكن عضوية منظمة "الاشتراكيون الديمقراطيون الامريكان" تبلغ اليوم قرابة 100 رفيقة ورفيق، تتراوح اعمار النشطاء منهم ما بين 20 -35 عاما. وهي ممثلة في الكونغرس الأمريكي، وفي برلمانات الولايات الامريكية، وقي مجالس حواضر البلاد التي يسكنها الملايين. بالإضافة إلى ذلك، نمت حركة عمالية أقوى، وتوالت الإضرابات العمالية الواحد تلو الآخر. وعلى الرغم من كل المصاعب والصراعات الداخلية والنكسات، خرج اليسار الأمريكي من دائرة المراوحة والتراجع، الى فضاء التصاعد المستمر.

في ايام 10 – 11 حزيران، نظمت مجلة جاكوبين في العاصمة الألمانية برلين،  مؤتمر "الاشتراكية في عصرنا"، ومثلت المحررة في المجلة ميغن ديي منظمة "الاشتراكيون الديمقراطيون الامريكان" في المؤتمر، والتي تصفها المجلة بـ"احد المفكرين الاستراتيجيين في اليسار الأمريكي" وعلى هامشه اجرت المجلة حوارا مع ميغن ديي حول طابع المنظمة والنجاحات التي حققتها، والمصاعب التي ما تزال تواجهها، وما الذي يمكن ان يتعلمه اليسار الأوربي منها؟ فيما يلي عرضا لاهم ما ورد في هذا الحوار.

  نجاحات اليسار الامريكي

 في سنوات 2016-2020، توفرت فرص سياسية لقوى اليسار وقوى اليمين الأكثر رجعية, وفي عام 2016، كانت المرشحة للرئاسة آنذاك هيلاري كلينتون التي اعتبرت ممثلة مثالية لإجماع الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) ، والمؤسسة السياسية السائدة في الولايات المتحدة.  لقد واجهت هذه المؤسسة تهديدًا حقيقيًا من اليسار واليمين. ومعروف اليوم ان التهديد من اليمين كان أقوى. لكن الفرص كانت متاحة للطرفين.

مقارنة بالعقود السابقة، شعر المرء فجأة أن المستقبل مفتوح. وكان أهم انتصار فكري تحقق في ذلك الوقت هو الاهتمام في المناقشات العامة بعدم المساواة الاجتماعية.  لقد كان خطاب بيرني ساندرز السياسي مؤثرًا للغاية لأنه استطاع أن يقنع الناس أن عدم المساواة الاقتصادية المنتشرة في المجتمع الأمريكي والعالم لا يمكن قبولها، وأنها ليست طبيعية، ولا امرا حتميا. فجأة، انضم الكثير من الناس إلى الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا. بلغ عدد أعضاء المنظمة في عام 2016، 6 آلاف، وقد أصبح الآن قرابة 100 ألف عضو. لقد بدأ الناس في الانخراط في عمل سياسي يساري ملموس بدلاً من مجرد التعاطف الغامض مع الفكرة. واكتسبت فروع المنظمة المحلية تأثيرا كبيرا، وصل الى انتخاب مرشحيها لعضوية الكونغرس الأمريكي والبرلمانات المحلية.

وشهدت سنوات 2016 - 2020 أيضًا أولى فترات الصحوة في الحركة العمالية الأمريكية. كانت هناك موجة ضخمة من إضرابات المعلمين، التي بدأت في عام 2018 واستمرت حتى عام 2019. توقف المعلمون في جميع أنحاء البلاد عن العمل. بعضهم فعل ذلك بالضد من نقاباتهم. ولم يكن لبعضهم الآخر نقابات مؤثرة، وكان العديد منهم في الولايات الحمراء (توصف الولايات التي يحكمها الجمهوريون بالحمراء، الولايات التي يحكمها الديمقراطيون بالزرقاء). لقد ناضلوا ضد إجراءات التقشف المطبقة في فرجينيا الغربية وأوكلاهوما وأريزونا وبعض الولايات الحمراء الأخرى.

 الإضرابات وتأثير اليسار

 هناك امثلة ملموسة على هذا التأثير، مُدرستين في ولاية فرجينيا الغربية أنشئتا مجموعة على فيسبوك للمعلمين الساخطين، أطلقت إضرابا حقق أهدافه. كلتاهما انضمتا إلى الاشتراكيين الديمقراطيين بسبب دعمهما لبيرني ساندرز والتقيتا في مجموعة قراءة حزبية. في ولاية أريزونا، وهي ولاية شديدة الرجعية. لقد  تبنى منظمو إضراب المعلمين قبل ذلك حملة بيرني. أما بالنسبة للنشاط النقابي الأخير في ستاربكس، فان انضمام منظمو الاضراب الى حملة بيرني ساندرز جعل سقف مطالبهم، بخصوص الأجور ظروف العمل اعلى. وهناك  اليوم مناخ مؤيد للنقابات، لم يكن موجودًا قبل عام 2016. فجأة أصبحت فكرة العمل في النقابات وتأسيسها تتمتع بشعبية كبيرة.

رؤية واضحة

كما قال فيفيك شيبر (مواليد 1965، عالم اجتماع أمريكي وأستاذ في جامعة نيويورك، يصدر المجلة النظرية الماركسية كاتاليست) ذات مرة، يجب أن تتبع النظرية الواقع. عليك أن تراقب ما يحدث ثم تقرر إمكانية توظيف الفرص المتاحة من عدمه. عندما ترشح بيرني ساندرز لخوض انتخابات الرئاسة عام 2016، وأثار فكرة تجديد اليسار الأمريكي ، أصبح من الواضح أن السياسات الانتخابية تحمل وعودا كبيرة. انطلاقا من أن النقابات لا تزال ضعيفة للغاية، وعلى الرغم من ان الكثير من اليساريين يفضلون التنظيم في موقع العمل أولاً، لكنهم وجدوا ان عليهم أيضًا الاعتماد على الحملات الانتخابية. لأن الحملات الانتخابية توفر الاهتمام الإعلامي، واهتمام الأمريكيين فيها كبير جدا.

إن سؤال الملايين من الأمريكيين عما إذا كانوا يؤمنون بالاشتراكية أو الرأسمالية هو أداة مؤثرة. وليس هناك ساذج في اليسار حد الاعتقاد بأن مجرد الحصول على عدد قليل من المواقع سيغير ميزان القوى بشكل كبير. هناك احتواءا مطلقا للسياسة الأمريكية من قبل الحزبين المهيمنين، وهما حزبا رأس المال. الجمهوريون بلا خجل وعلنيين بشأن انتمائهم لرأس المال، لكن الديمقراطيين ليسوا أفضل بكثير. قد يكون لديهم خطاب أكثر غموضًا يحاول تضليل الناس. لكن الحقيقة هي أن الحزب الديمقراطي خاضع كليا لرأس المال. إنه الحزب المفضل الثاني بالنسبة لرأس المال.

الطريقة التي تنظم بها الانتخابات في الولايات المتحدة تبين أن الديمقراطيين والجمهوريين يحتكرون الحياة السياسة. لذلك فان استخدام الانتخابات للوصول إلى الطبقة العاملة وتغيير توقعات الناس، بشأن حقوقهم في المجتمع، يفرض على اليسار الدخول في القوائم الانتخابية للحزب الديمقراطي في الوقت الحالي. لا أحد في اليسار يريد البقاء هناك. والجميع يعلم، بعدم وجود مساحة كبيرة للمناورة خارج هذه الامكانية.

كانت هناك محاولات لتأسيس القطب ثالث. لقد فشلت ا فشلا ذريعا. ويعود ذلك للاتهام بإفساد الانتخابات لأن نتائج الانتخابات بين الديمقراطيين والجمهوريين غالبًا ما تكون قريبة جدا. لذلك، فان وجود قطب ثالث على يسار الحزب الديمقراطي، سيتهم في حال خسارة الديمقراطيين بمساعدة اليمين. يريد اليساريون تأسيس حزب مستقل في المدى المتوسط، لكنهم في المدى القصير بحاجة إلى العمل من داخل الحزب الديمقراطي.

هذا لا يعني السعادة في التعايش مع جميع أعضاء الحزب الديمقراطي. على العكس من ذلك، فمن الأهمية بمكان بالنسبة للاشتراكيين المشاركين في قوائم الحزب الديمقراطي الابتعاد عن مؤسسة الحزب الديمقراطي، في كل فرصة متاحة. ان ناخبي "الاشتراكيون الديمقراطيون الامريكان" هم الجمهرة التي لا تردد في الابتعاد عن ممثلي رأس المال في الحزب الديمقراطي.  واعتماد هذا الأسلوب لفترة كافية، يتيح بناء قاعدة انتخابية من ملايين الأشخاص، الذين يفهمون الاختلافات بين جناحي الحزب الديمقراطي. وبهذه القاعدة، يمكن لاحقا الاستقلال عن الحزب الديمقراطي.

 حول الإصلاح والثورة

ان المطالبة بإصلاح واسع وعميق لا يمكن تحقيقه على الفور، سيؤدي مجرد التفكير به الى احباط معنويات الناس، لأنه يبدو بعيد المنال بالنسبة لهم. وبالتالي من الضروري اختيار إصلاحا واقعيا بدرجة معقولة، شرط ان يتقدم ببضع خطوات على الواقع الراهن، لكي يؤدي الى رفع سقف مطالب الناس.

هذا المفهوم ليس جديدا، يمكن فراءته عند الاشتراكيين الثوريين.  لقد صاغت روزا لوكسمبورغ هذه الاستراتيجية بوضوح شديد في عام 1899: "بالنسبة للديمقراطية الاشتراكية، هناك رابط لا ينفصم بين الإصلاحات الاجتماعية والثورة، فالنضال من أجل الإصلاح وسيلتها، والثورة الاجتماعية هدفها". الفكرة هي أن الإصلاحات المختارة بدقة تجعل الناس يتوقعون المزيد ويناضلون من أجل المزيد.

وخير مثال تاريخي على ذلك هو النضال من اجل يوم عمل من ثماني ساعات. أراد ماركس إلغاء الرأسمالية وبناء الاشتراكية. ويوم عمل بثماني ساعات بعيد عن تحقيق الهدف. لكن اممية ماركس الأولى جعلت النضال من اجل يوم عمل من ثماني ساعات أحد البنود الرئيسية في جدول أعمالها، على أساس أن اهتمام الناس سيكون بالقدر الكافي للنضال من أجله. ولكن أيضًا لأن - وهذه نقطة ثانية مهمة حقًا - سيغير يوم عمل من ثماني ساعات هيكليا ميزان القوى بين العمال والرأسماليين. إنه يعني مزيدًا من وقت الفراغ للعمال لتنظيم أنفسهم حتى يتمكنوا من النضال ضد رؤسائهم. هذا هو الفرق بين الإصلاح الهيكلي والإصلاح الشكلي.  إذا حققت إصلاح شكلي، فستكون حياة الناس أجمل قليلاً، لكن الأمور لا تتغير جذريًا. يعني الإصلاح الهيكلي أو الثوري أنك تنتزع سلطة رأس المال وتضعها في أيدي الطبقة العاملة. وتمنح الطبقة العاملة موقع انطلاق أفضل لانتصارات مستقبلية.

مثال راهن هو النضال من أجل التأمين الصحي العام في الولايات المتحدة. إذا نجح العمال في الولايات المتحدة في فرض ذلك، فسيعني ذلك أن العمال لم يعودوا مرتبطين برب عملهم. حاليا، لا يمكنهم ترك وظائفهم دون معرفة البديل، لأنهم لن يحصلوا على تأمين صحي بعد الآن. في الولايات المتحدة، يعني هذا أنك قد تموت. ولذلك، تحت الخطر الذي يهدد حياتهم، يضطرون إلى تحمل أي هراء من رب العمل. وهذا يبقي الأجور منخفضة أيضا، لأن الناس يخشون تحدي رؤسائهم. إنهم يخشون أن يُطردوا، إذا نظموا إضرابات أو انضموا إلى نقابات.

أهمية منظمة "الاشتراكيون الديمقراطيون الامريكان"

تأسست المنظمة في الثمانينيات وكانت عضويتها منخفضة على مدى عقود. وكما أشرنا، في عام 2016، وارتباطا بحملة بيرني ساندرز، سعى العديد من الذين ألهمتهم الحملة الانتخابية إلى البحث عن بيت سياسي، لمواصلة النضال، بما يتفق مع مبادئ ومثل الحملة، فوجدوا في المنظمة بيتهم الطبيعي.

ان الأحزاب الأمريكية الكبرى ليست أحزابا، كالتي نعرفها في أوروبا. ليس لديها أعضاء يدفعون اشتراكات، ولهم بالمقابل رأي ديمقراطي في اجتماعات المندوبين والمشاركة في إقرار برامج الحزب. هذه كيانات غير ديمقراطية على الإطلاق وليست مسؤولة أمام القواعد الشعبية. ومن ناحية أخرى، فان منظمة "الاشتراكيون الديمقراطيون الامريكان" منظمة على نسق حزب عمال كلاسيكي: القاعدة الشعبية، ننتخب قيادة الحزب، ونناقش بشكل ديمقراطي خط الحزب واستراتيجياته. بالطبع، إنها ليست منظمة مثالية أيضًا، لكنها أكبر منظمة اشتراكية صريحة منذ نصف القرن الماضي، وتعمل في قلب الرأسمالية العالمية. هذا السبب وحده، يعكس الحاجة الى الاهتمام الكبير بالمنظمة، وتوفير الكثير من الموارد لها.

يسار ويسار آخر

في اليسار الأوربي يجري الحديث عن إمكانية التعلم من اليسار الأمريكي، في حين ان الكثير من الأهداف التي يناضل من اجلها هذا اليسار متحققة في اوربا، ولكن اليسار في اوربا يعاني من المراوحة والتراجع. وبالمقابل في الولايات المتحدة، غالبًا ما يعتبر اليسار الأوروبي مثاليا باعتباره أكثر تقدمًا من اليسار الأمريكي. من المعروف ضرورة تحقيق تقدم اجتماعي ثم النضال في سبيل الحفاظ عليه، بما في ذلك مواجهة التقشف. والمطلوب الوصول نقطة انتزاع قدرا كبيرا من السيطرة بعيدًا عن رأس المال بحيث يمكن الدفاع عن النجاحات. لكن أوروبا ليست جاهزة بعد. المكاسب التي حققتها الحركات العمالية الديمقراطية خلال القرن العشرين في خطر شديد. واليسار في أوروبا لا يزال في حالة دفاع، بينما يتقدم اليسار الأمريكي ببطء صوب الهجوم.

يمتاز اليسار الأمريكي على اليسار الأوروبي، بانه حتى قبل سنوات قليلة، كان محدود النشاط، لذلك لا وجود للكثير من تأثيرات التجربة السابقة. هناك الكثير من اليساريين لم يمضوا عشر أو عشرين عامًا في تطوير عاداتهم، ولا يمكنهم التخلي عنها. وكثير من الناس خرجوا إلى الشوارع، مثل ارض بكر، وبالتالي يسهل إقناعهم بالسياسة الماركسية. ومن الأسهل كسبهم للماركسية لأنهم لا يحملون عبء تقاليد متراكمة.

.معارك المستقبل

ان مراقبة ما يحدث ضرورية جدا للاستفادة من الفرص التي تتاح. أفضل مثال على ذلك هو نجاح تأسيس تنظيم نقابي في شركتي امازون وستاربكس في الولايات المتحدة. هناك عددا من أعضاء الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكان شغلوا وظائف في شركة ستاربكس لدعم المنظمة النقابية حديثة التأسيس. وهناك العديد من أعضاء المنظمة اختاروا الاستجابة للحظة ما بعد بيرني ساندرز، عبر تغيير مهنهم ومواقع العمل، وخاصة العمل في الصناعات الاستراتيجية حيث يمكنهم تأسيس نقابات والمساهمة في بناء الحركة العمالية في الولايات المتحدة من الأسفل إلى الأعلى. وتمثل قطاعات الخدمات اللوجستية والتعليم والرعاية الصحية أولوية، بالنسبة مواصلة حملة الحصول على فرص عمل فيها، دون اهمال التركيز أيضا على الحركة العمالية. هذه هي المنطقة التي تضم الإمكانات الأكبر في الوقت الحالي.

*- نشرت اول مرة في العدد 156 من مجلة الشرارة النجفية

عرض مقالات: