تتمثل أسباب ومقدمات الحركة الاحتجاجية بالأزمة الاجتماعية العميقة ومآسيها التي تطحن رحاها الملايين. ومازالت عوامل اندلاعها، بما فيها انتفاضة تشرين 2019، قائمة، وقد أضيفت اليها تداعيات الأزمة المالية، وشحة عائدات تصدير النفط، فضلا عما سببته الاجراءات الوقائية الضرورية للتصدي لجائحة كورونا من صعوبات جدية لملايين الكادحين، وما يتلمسه المواطنون من غياب للعدالة في التعيينات، واستمرار سيادة نهج المحاصصة واستحواذ الكتل المتنفذة، وشيوع الفساد، ناهيكم عن المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية المستعصية .. على هذا النحو الدقيق والمكثف شخص التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللحنة المركزية لحزبنا المنعقد في الفترة من 4 – 7 حزيران 2020 مقدمات وأسباب الانتفاضة.
لقد أصبح الحراك، بعد اندلاع انتفاضة تشرين خصوصا، حقيقة واقعة حيث انخرط فيه الملايين من المواطنين في سائر أرجاء البلاد، معبرين عن أشكال مختلفة من السخط والغضب والاحتجاج.
وبينما تجلت في انتفاضة تشرين الهوية الوطنية التي جسدها شعار الانتفاضة الرئيسي “نريد وطن”، مثّلت سلمية التظاهرات، وسلوك المتظاهرين المنضبط والمتحرر، حيث تجسدت أرقى سجايا الشخصية العراقية، الطابع المدني للاحتجاج.
وعلى الرغم من ميل بعض قوى الحركة الاحتجاجية الى تكريس النزعة العدمية، وازدراء وتهميش دور الأحزاب والقوى المنظمة على نحو يشوه طبيعة الحراك، ويجرده من القيادة الواعية الضرورية، فان الحراك الاحتجاجي تمكن، في مجرى استمراريته، وخصوصا بعد اندلاع انتفاضة تشرين، من التخلص من كثير من المظاهر السلبية، بل إن بعض الجهات والأطراف داخل الحركة الاحتجاجية بدأت تدرك أهمية التنسيق والعمل المشترك، وهو تطور جدير بالتأمل، يدفع الى الرهان على امكانية أن تتخلص الحركة من الجهود االمشتتة، وأن تكون لها قيادة واضحة.
ومهما يكن من أمر المواقف الملتبسة والمتنافرة والمترددة، والمائعة أحيانا، وتلك التي تقدس العفوية وتجسد النزعات الطفولية الانعزالية، فان أحد أهم الدروس المستقاة من واقع الانتفاضة يشير الى أنه عندما تتحرك الجماهير موحدة تتوفر امكانيات لتحقيق نتائج كبرى، وهو ما تجلى، من بين أمور أخرى، في اسقاط حكومة عادل عبد المهدي.
وقد اتسم الحراك، الذي كسر حواجز اجتماعية وفكرية وسلوكية، بالقدرة على استقطاب قوى اجتماعية واسعة أصبح حضورها الفاعل ظاهرة جلية في مسار المظاهرات. وكانت مشاركة الشباب والنساء والمثقفين، الذين حطموا جدار الخوف وحولوا التيار الشعبي الى تيار جارف، ذات مغزى عميق بالنسبة لآفاق الكفاح وتعميق وعي الجماهير الثوري التنويري.

فتيان “القمصان البيض

وكانت مشاركة الشباب، والطلاب على وجه الخصوص، سمة مميزة من سمات الانتفاضة، ومؤشرا على رفض شعبي لسياسات الحكمات المتعاقبة. فقد تحققت في مجرى الانتفاضة أوسع مشاركة للطلبة منذ عقود في فعاليات الاحتجاج الجماهيري، بعد أن كان هذا الحراك شبه منسي في الحياة السياسية منذ زمن طويل. وأعطت المشاركة الطلابية زخما كبيرا لحركة الاحتجاج وساعدت في اخراجها مما أريد لها من انحدار نحو العزلة، وما وجه لها من اتهامات بالتآمر من جانب أحزاب السلطة وقنواتها الاعلامية.
ولم تكن الحكومة تتوقع هذه المشاركة الواسعة لأصحاب “القمصان البيض”، وهو الأمر الذي دفع رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الى التحذير من “استغلال” هذه الشريحة، وأمر بأن يكون الدوام كاملا في المدارس والجامعات (فضلا عن مؤسسات الدولة)، متوعدا المتسببين بتعطيل الدوام باجراءات عقابية شديدة.
وعلى وقع هذه التهديدات أعلنت نقابة المعلمين في بيان لها عن بدء الاضراب في المدارس لأيام قابلة للتمديد، تعبيرا عن التضامن مع المتظاهرين، وتصعيد الضغوط على الحكومة للاسراع في تلبية مطالب المحتجين، مجسدة الموقف الوطني المشهود للمعلمين. ومما له دلالة بليغة أن موقف المعلمين هذا جاء منسجما ومكملا لمواقف النقابات والمنظمات المهنية التي شاركت في الاحتجاج باعتبارها ممثلة لقطاعاتها، مثل نقابات العمال ونقابة المحامين، واتحادات مهنية أخرى. وكان هذا الخيار الحاسم خيارا متوقعا، كشف عن احساس رفيع بالمسؤولية الوطنية.

أيقونة الانتفاضة

ولعل المثال الأكثر تألقا في انتفاضة تشرين كان المرأة العراقية، التي لعبت دورا قياديا غير معتاد في مجتمع يغلب عليه الطابع الذكوري بشكل تقليدي، فتحولت الى أيقونة للانتفاضة حقا.
وبدا حضور المرأة طاغيا في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي. ولا ريب أن هذه المشاركة المميزة ليست ظاهرة جديدة. فمازالت ماثلة في الذاكرة تلك اللحظات المفصلية، حيث أسقطت المظاهرات النسوية الحاشدة عام 2003 محاولة القوى والأحزاب التقليدية تغيير قانون الأحوال الشخصية واستبداله بقانون آخر يستند الى تشريعات طائفية.
وكان بوسع المرء أن يرى نساء من مختلف الأجيال والفئات الاجتماعية، ممن يقدم سلوكهن نموذجا للوعي الحضاري المتمثل بالاستعداد للمشاركة، من تقديم الطعام وأعمال الطبابة حتى حملات تنظيف الساحات. كل ذلك في خضم أجواء تسودها روح الانتماء والتكافل والوطنية، اذ لم تشهد ساحات الاعتصام حالات تحرش، وهو ما مثّل دلالة على السلوك القائم على احترام المرأة وتقدير دورها في الانتفاضة.
وليس بوسع المرء أن ينسى تلك القصص المذهلة لنساء وشابات جسدن المعاني الأخلاقية الرفيعة والقيم الانسانية السامية، التي أضاءت ساحة التحرير في بغداد، والحبوبي في الناصرية، والبحرية في البصرة، والصدرين في النجف، وسواها من سوح الاحتجاج في سائر المحافظات، وقد تحولت الى وطن يتسع للجميع.

دور ريادي للمثقفين

أما المثقفون فجسدوا، بحق، كونهم حملة مشاعل التنوير والوعي بضرورة التغيير. فقد عكس التحول العاصف في الاطار الثقافي، رغم كل التباساته وانعطافاته، آفاق نهضة ثقافية يمكن، اذا ما توفرت لها الشروط الصحية، أن تعيد الاعتبار للعقلانية، وتخلق فضاء ازدهار الثقافة الوطنية التقدمية.
معلوم أن الدولة تستخدم القمع والآيديولوجيا والمال لادامة سلطتها. وتسعى هذه السلطة، المناهضة للديمقراطية الحقيقية، والتي يقوم نظامها على الوحدانية واعادة انتاج التجهيل، الى تحويل دور المعرفة الى برهان على “شرعية” الاستبداد.
وعلى الرغم من التباين (الطبيعي) في الآراء بشأن انخراط النخب الثقافية في الحركة الاحتجاجية، والتعقيدات المتشابكة التي تواجه دور وموقف المثقف في الحركة الاجتماعية، ومحالة قوى الثورة المضادة اشاعة اليأس في صفوف المثقفين، ولاجدوى مشاركتهم في الاحتجاج، وبالتالي عزلهم عن الأحداث والتحولات الاجتماعية، على الرغم من كل ذلك، كشفت تجربة انتفاضة تشرين عن الدور الريادي التنويري للمثقفين. وسرعان ما أزال المثقفون، بمشاركتهم الملهمة في الانتفاضة، وهم غيابهم وانكفائهم وعزلتهم ويأسهم. وقد تميزت، في سياق الحراك الاجتماعي، مساهمة واضحة ومتسعة للمثقفين الذين تصدروا المشهد وكانوا في قلب الحدث. ووجدنا في الحركة الاحتجاجية ملامح اجابات على أسئلة ملحة حول العلاقة بين الموقف السياسي والاجتماعي للمثقف وابداعه الجمالي.
وهكذا فان من بين أهم سمات انتفاضة تشرين تبرز سمة انخراط النخب الثقافية في هذه الانتفاضة بقوة وفاعلية، ومسعى المثقفين الحثيث لترشيد الظاهرة الاحتجاجية، والمشاركة النشيطة في بلورة شعاراتها، واشاعة الوعي بأهمية وضرورة التغيير.
* * *
هكذا، اذن، يغدو جليا، عبر تكامل عناصر الأزمة الاجتماعية المتفاقمة من ناحية، وتعاظم حركة الجماهير المنتفضة والمحتجة من ناحية ثانية، أن لا مخرج من النفق المظلم الا عبر تغيير ميزان القوى السياسي والاجتماعي. وتؤكد عناصر الأزمة الاجتماعية، مرة إثر أخرى، بأن النظام السياسي الراهن، المكبل بأغلال المحاصصة، عاجز عن تقديم الحلول للمعضلات التي يعاني منها الملايين، وانقاذ البلاد من محنتها المروعة.
لا سبيل الى ذلك سوى التغيير، وهنا، على وجه التحديد، يتجلى الدور الحاسم للجماهير، وتتأكد حقيقة أن تعاظم السخط يشكل مقدمة أساسية للتغيير المنشود، وهو ما يتعين أن تستثمره قوى التغيير ..
الجماهير هي التي تضيء هذا السخط المتراكم، وتطلق شرارته، وتحوله الى فعل اقتحامي واعٍ، وسعي الى الخلاص من راهن يستقتل في تأبيده النظام القديم ..

عرض مقالات: