من أكثر ما يستخدم للطعن بثورة 14 تموز عام 1958 في العراق، كونها إنقلاباً عسكرياً، أفتتح حقبة طويلة من هيمنة العسكر على الثروة والحكم في البلاد، وإغلاقهم السبل أمام التداول السلمي للسلطة! ورغم إن ساحة المرددين لهذه الطعون تستقبل كل يوم، ببغاوات جديدة وأنصاف سياسيين ومؤرخين، تقدمهم الحياة السياسية البائسة والتدني المريع في الوعي وسيادة الجهل والأوهام، فإن تصحيح الأمر وقراءة التاريخ بعين محايدة ومنصفة يعد مهمة أصيلة للوطنيين والديمقراطيين، لأن كل ما جرى لم يكن إنقلاباً عسكرياً، مّهد لحدوث الكوارث من خلال إضفاء “الشرعية الثورية” على تدخل العسكر في السياسة، بل ثورة وطنية تحررية، كادت أن تفتح، إن لم توأد، الطريق امام تقدم العراق ورخائه.
وإذا كان من البداهة أن يعتبر الحدث إنقلاباً مأساويا، إذا ما نظرنا اليه بشكل مجرد، أي على أساس قيام مجموعة من الضباط بإنجاز الأمر لوحدهم والإجهاز على نظام “دستوري برلماني”، يملك فيه ملك شاب، تاركاً الحكم لسلطة إكتسبت شرعيتها من صناديق الإنتخابات، فإن أول نظرة فاحصة ومنصفة لما سبق وتلى الثورة، يبدد بسرعة هذا الوهم، حيث لم يكن ما حدث صبيحة الرابع عشر من تموز أول تدخل واسع للعسكر في السياسة وتحكمهم بالسلطة والثروة، لأن الحكم الملكي نفسه لم يكن سوى تحالف أقامه المستعمر البريطاني بين حفنة من الضباط الشريفيين (نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وغيرهم) وبين رؤساء العشائر (بعد تحويلهم الى طبقة من الإقطاعيين لا يتجاوز عديدها الأربعة الأف فيما تتجاوز ملكيتها 70 % من الأراضي الزراعية إثر توزيع اراضي الدولة عليها بما عرف بالأراضي الأميرية الممنوحة باللزمة)، وفيما بعد مع فئات من التجار والمصرفيين ورجال الأعمال المهتمين بتوفير الأسواق الجديدة والثروات الأولية للتوسع الرأسمالي، بلغت ملكية 23 شخصاً منهم على سبيل المثال، 56 % من مجموع الرأسمال التجاري والصناعي المشترك والخاص في البلاد.
كما لابد من الإشارة أيضا الى أن صعود مجموعة جديدة من الضباط العراقيين من غير الشريفيين، قد أدى الى استغلال واضح للجيش في فرض التوجه السياسي، وهو ما تمثل في إنقلاب بكر صدقي عام 1936 وإنقلاب الكيلاني والعقداء الأربعة عام 1941، وفي إستخدام العسكر لقمع إنتفاضات ووثبات الشعب بشكل دموي وبشع أعوام 1948 و1952 و1956، وفي الجرائم التي ارتكبوها ضد الآثوريين والكرد وفلاحي الفرات الأوسط! وهنا يصبح جلياً إن قبول هذه التدخلات وإعتبارها محمودة، ورفض ما حدث في 14 تموز، إنما هو كيل بائس بمكيالين!
لقد كان حدث 14 تموز، تلاحما بين جميع القوى السياسية الفاعلة في البلاد، وأذرعها وركائزها في المؤسسة العسكرية، وبين نخبة من الضباط الأحرار، هم أبناء جيل كامل من الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة، جيل أجترح مآثر نضالية لا حصر لها من أجل الحرية والعدالة، وما مساهمة 100 ألف مدني في دعم 3000 عسكري سوى مثال حقيقي على ذلك التلاحم، الذي حول التحرك العسكري الى تغيير ثوري جماهيري.
كما لم يغلق 14 تموز باب التداول السلمي كما يزعمون، لأنه وببساطة شديدة، لم يمارس النظام الملكي، طيلة أربعة عقود أي شكل ديمقراطي من أشكال التداول السلمي للسلطة، بل دأب على ممارسة شكل بدائي ومضحك لليبرالية، كان الملك وخاله فيه يحكمان ويملكان في آن واحد!
ولم تكن نتائج الإنتخابات القرقوزية قادرة على التحكم في تشكيل الحكومات وتغييرها، أو إخضاعها لرقابة البرلمان، أو إلزامها بالتشاور مع المعارضة ناهيك عن منظمات المجتمع المدني، فيما كانت تلك الحكومات هي القادرة على حل المجالس النيابية متى ما شاءت، ولنا في حل برلمان عام 1954، لفوز عدد محدود من النواب الوطنيين بعضويته خير دليل على فساد “ديمقراطية” ذلك النظام، الذي افتقدت تجربته ليس فقط لإنتخابات حرّة، بل وأيضا لحرية الصحافة والتنظيم واختيار المجالس المحلية وللتصرف الشفاف بالدخل القومي والثروة الوطنية وللحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، وهي بمجموعها أسس أصيلة لتحقيق تداول سلمي للسلطة في أي بلد.
وتأسيساً على كل هذا، يعد التغيير الثوري في 14 تموز المحاولة الأولى لإرساء أسس ديمقراطية سياسية واجتماعية في العراق، تمهد لقيام تداول سلمي للسلطة، من خلال بلورة هوية عراقية جامعة، وإنجاز جملة من المتغيرات السياسية والإقتصادية والاجتماعية، كالاستقلال السياسي وتحرير الثروة الوطنية، ورسم معالم أولية لتنمية وطنية مستقلة، وإنشاء العشرات من المنظمات الجماهيرية والجمعيات، وتدشين حملات وطنية شاملة للتحديث والتنوير. وكان تردد القيادة العسكرية للثورة وتصاعد النزعة الإستبدادية لديها وتمزق صفوف أنصار الثورة وقيام حلف غير مقدس بين أعدائها ضدها، كافياً الى وأد التجربة وغلق الباب على طموحات الناس في الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.

عرض مقالات: