في بداية القرن العشرين، تشكلت في ايران، وخاصة بين المهاجرين والعمال الإيرانيين العاملين في المؤسسات الروسية في باكو ومدن أخرى، منظمات يسارية ايرانية تأثرت باليسار الروسي وخاصة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي وتحديداً البلاشفة، وأطلقت على نفسها صفة (اجتماعيون عاميون).
وساهم الديمقراطيون الاجتماعيون بنشاط وفعالية في الثورة الوطنية الديمقراطية الإيرانية "المشروطة" عام 1905. ولكن تكالب بريطانيا وروسيا القيصرية وفئات اجتماعية رجعية وتيار من رجال الدين المتعصبين في داخل إيران، نجح في ألحاق الهزيمة بالمشروطة وثوارها. وتشتت قوى الثورة، وأضطر الكثير من قادتها وكوادرها إلى الهجرة سواء إلى روسيا أو إلى بلدان مجاورة اوغربية. لكن هذه القوى الثورية استمرت في نشاطها، خاصة في مناطق روسيا الجنوبية آنذاك (جمهورية آذربيجان حالياً) جيث كان يتمركز العمال الإيرانيون العاملون خاصة في الصناعة النفطية.
وفي أيار 1917، وبعد انتصار ثورة شباط الروسية التي أدت إلى إسقاط القيصر الروسي ونظامه، تشكلت في باكو منظمة يسارية تحت أسم "عدالت" بقيادة أسد الله غفار زاده، كإمتداد للحركة الاشتراكية الديمقراطية الإيرانية التي تأثرت بالإحداث الكبرى التي عمت روسيا آنذاك، خاصة بعد إندلاع ثورة اكتوبر في روسيا في السابع من تشرين الثاني 1917.

 وعقدت هذه المنظمة، بالتعاون مع "حركة الغابة" (جنگليها)، أول مؤتمر لها في ميناء أنزلي الإيراني الواقع على بحر الخزر، حيث كتن ينشط عدد من المجاميع الثورية مثل "همت" وعدالت" وغيرهما. وأقر المؤتمر تبديل اسم المنظمة إلى "الحزب الشيوعي الإيراني" وانتخب قيادة له، فاصبح حيدر عمو أوغلي سكرتيراً عاماً للحزب، وغدا كل من اسد الله غفار زادة السكرتير الأول و أوتيس سلطان زاده السكرتير الثاني للحزب.
وأعلن في المؤتمر عن تأسيس الجمهورية الاشتراكية السوفييتية الإيرانية في منطقة كيلان من إيران، وكان ذلك حدثا فريدا واولا من نوعه في المنطقة وفي قارة آسيا، وانتخب مرزا كوجك خان أول رئيس للجمهورية.
وضم الحزب الشيوعي الايراني الوليد شخصيات لامعة ومفكرين ورجال سياسة ومثقفين، لعبوا ادواراً بارزة في تاريخ الحركة الشيوعية والعمالية العالمية، منهم على سبيل المثال علي مسیو، کامران آقازاده، سیروس بهرام‌، نیکائین وغفارزاده. وسرعان ما إنضم الحزب إلى التنظيم الفتي للحركة الشيوعية والعمالية العالمية "الأممية الشيوعية" التي تأسست في 19 آذار 1919. وتشير وثائق الكومنترن التي تم الكشف عنها بعد زوال النظام السوفييتي، إن هذا التنظيم نبع بالأساس من رحم الإيرانيين والفئات الكادحة الإيرانية، ومن الفئة المثقفة التي عاشت الأحداث العاصفة في أوربا خلال الحرب العالمية الأولى، وتداعياتها بعد إنهيار الأمبراطورية العثمانية وأمبراطورية النمسا والمجر والأمبراطورية الألمانية. وتحملت المنظومة الاستعمارية للأمبريالية
خسائر جسيمة في تلك الحرب، واجهها صعود المد الديمقراطي واليساري على نطاق الدول الرأسمالية، وانتعاش المد التحرري على نطاق بلدان آسيا وبقية الدول المستعمرة والخاضعة للنفوذ الأجنبي.
وكما يشير الشهيد عبد الحسين آگاهي في كتابه "تاريخ الأحزاب السياسية في إيران" فان : "حزب الاجتماعیين- العامیين كان أول حزب منظم في إيران في ثورة المشروطة من عام 1905 إلى 1911". (الشهيد عبد الحسين آگاهي كان من شهداء حزب توده ايران الذين تم إعدامهم خلال الحملة ضد الحزب عام 1983).
وشرع الحزب الفتي بنشاط حثيث خاصة في المناطق المحرمة بالنسبة له في طهران وتبريز واصفهان وشيراز ومشهد وقزوين ومدن إيرانية أخرى. كما شارك في لقاءآت اقليمية مثل الاجتماع الموسع لهذه الأحزاب في آسيا الوسطى بمدينة طاشقند، ومثّله أعضاء في لجنته المركزية. وشارك وفد منه في المؤتمر الأول للقسم الشرقي للكومنترن، حيث استعرض حيدر عمو أوغلي سكرتيره العام الأوضاع الاقتصادية والسياسية في إيران، فيما تطرق علي خان زاده إلى تكتيك الحزب، وشرح آوتيس ميكائيليان (سلطان زاده) تشكيل المجاميع العمالية ومجالس العمال والفلاحين في إيران.
وقد أثار نشاط الحزب المتزايد قلق وحفيظة قوى خارجية( بريطانيا) وداخلية (قومية ودينية متعصبة) فشرعوا بالتفتيش عن حل يحد من خطره على مصالحهم، وقرروا اللجوء إلى الإنقلاب العسكري ، وقد قاده وزير الدفاع آنذاك وقائد لواء القوزاق التأديبي رضا خان، وكان هذا في عام 1921. وفي فترة 1923 – 1925 وبعد أن تم خلع آخر شاه من السلطة القاجارية، أجبر رضا خان مجلس الشورى على انتخابه شاهاً لايران، مدشناً عهد السلطة الشاهنشاهية البهلوية الاستبدادية.

 وبعد أن عزز الشاه الجديد مواقعه في السلطة في 1925، هيأ الحزب ونفذ سنة 1927 إضرابا واسعا في شركة النفط الانجليزية. ورد رضا شاه في 1929 بفرض قانون "حظر النشاط الاشتراكي" (أدنى عقوبة بموجبه للناشط الاشتراكي 10 سنوات!) ، ثم شرع بهجوم واسع على الحزب وأنصاره. وبقي القانون سارياً حتى سقوط السلالة البهلوية في 1979 غداة الثورة الإيرانية.
وخلال تلك الفترة تعرض الشيوعيين إلى الملاحقة والسجن، واعتقل خيرة كوادر الحزب ومنهم الشهيد الدكتور في الرياضيات والفليسوف تقي أراني، الذي جرى قتل بالسم في السجن.
وطويت صفحة تأسيس الحزب وسط أجواء بوليسية مخيمة، حرمت الشيوعيين الإيرانيين من أي شكل من أشكال النشاط العلني. وإنحاز رضا بهلوي في السنوات
الأخيرة من حكمه إلى بلدان المحور الفاشي الألماني الايطالي الياباني، مما دفع بريطانيا والاتحاد السوفياتي إلى غزو إيران عام 1941 والاطاحة بحكم رضا بهلوي، وتنصيب ولي عهده محمد رضا بهلوي شاهاً لإيران، ليبدأ فصل جديد في مسيرة إيران، انتهى بسقوط الشاه الجديد على يد شعبه في شباط عام 1979.
ومع سقوط رضا شاه عام 1941 بدأ عهد جديد أتيح فيه للشيوعيين النشاط من جديد وبإسم جديد "حزب توده إيران"( حزب الشعب أو حزب الجماهير) تخفيفا من المسحة الإيديولوجية لتسمية "الحزب الشيوعي الإيراني"، وجاء ذلك بمبادرة من الشخصية اليسارية المخضرمة ميرزا سليمان اسكندري (والد الدكتور إيرج إسكندري السكرتير اللاحق لحزب توده إيران في السبعينيات من القرن الماضي).
وبعد سقوط رضا شاه ايضا، إطلق سراح السجناء الشيوعيين وعادت الكوادر السابقة للحزب الشيوعي الإيراني إلى النشاط في إطار الحزب الجديد. وشارك الحزب في الحكومة الأئتلافية برئاسة قوام السلطنة بثلاثة وزراء من أعضاء اللجنة المركزية لحزب توده إيران، وهم فريدون كشاورز وايرج اسكندري والدكتور مرتضى يزدي كوزراء للثقافة والصناعة والصحة. وكان هذا مؤشرا على نهاية صفحة الاستبداد التي سادت في عهد الشاه الأب، ولو بشكل مؤقت كما ظهر لاحقاً.
وتوفرت أجواء مناسبة للحراك القومي في آذربيجان وكردستان لتحقيق قدر من طموحاتهم القومية، وحظي ذلك الحراك بدعم حزب توده إيران أيضاً، لكنه قمع بعد سنة من ذلك، بعد إنسحاب القوات السوفييتية من شمال إيران في عام 1946 بموجب إتفاق سابق بين دول التحالف المعادي للفاشية.
وخلال هذا نشطت الحركات العمالية والنسوية والطلابية، ورعى الحزب النشاط الثقافي وتجاوز كل الحركات السياسية الإيرانية في تطوير الثقافة الإيرانية بكل مظاهرها.
ولكن ما أن القت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى أعلن الغرب على لسان ونستون تشرتشل الحرب الباردة، التي اطلقت أجواءها السلبية في كل بلدان العالم، وكان هذا التأثير السلبي مضاعفا في إيران بسبب موقعها الجغرافي في جوار الإتحاد السوفييتي. فأزيح ممثلو حزب توده من تشكيلة مجلس الوزراء، وبدأت الدول الغربية الضغط لازاحة الحزب كله من الميدان السياسي.
وتطابق هذا النهج مع مصالح الطغمة الحاكمة والوسط اليميني القومي- الديني، الذي أغرته أهداف الحرب الباردة، فوضع كل ثقله إلى جانب المخطط الأمريكي – البريطاني. وكما هي العادة جرى افتعال محاولة اغتيال للشاه في جامعة طهران لتوجيه الإتهام الى الحزب بتدبير المحاولة، وصدر حظر على نشاط الحزب في الدقائق الأولى من الإعلان عن المحاولة، بعد ما قيل عن العثور على هوية عضوية فيه بجيب المتهم،
الامر الذي يشير الى تدبير وتآمر معد سلفاً ضد الحزب.

 وبدأ مسلسل الملاحقات، وألقي القبض على عدد من قادة الحزب من بينهم نور الدين كيانوري (أصبح في عقد السبعينيات سكرتير اللجنة المركزيةلحزب توده إيران ثم اعتقل عام 1983) الذي اصدرت بحقه أحكام ثقيلة، إضافة إلى إعتقال الضابط الأسطوري خسرو روزبه (أعدم في عام 1956)، ولكن تم تهريبهما من سجن قصر بعد فترة قصيرة من قبل تنظيم ضباط حزب توده ايران، وغادروا ايران سراً.
وما أن تولى الدكتور محمد مصدق مسؤولية الحكم بعد مظاهرات جماهيرية عارمة ضغطت على المجلس واضطرته الى الموافقة على تكليفه بتشكيلها، رغم معارضة الشاه وبطانته، حتى لعب حزب توده، رغم الحظر المفروض عليه، دوراً مؤثراً في دعم مصدق وتوليه رئاسة الحكومة وتحقيق شعاره في تأميم شركة النفط الإيرانية. وهو إجراء حدث لأول مرة في بلدان العالم الثالث ضد مصالح الشركات النفطية الاحتكارية، مما أثار جنون حكام الغرب والشركات المذكورة، فشرعوا بتدبير المؤآمرات للإطاحة بالرجا رغم كونه رئيس الوزراء الشرعي.
وحسب "الأصول" وعلى غرار ما جرى في العراق لاحقا، في 8 شباط 1963، اتحدت وكالات المخابرات الأجنبية في الولايات المتحدة وبريطانيا وشركات النفط الأجنبية، وبدعم إقليمي من حلفائهم باشروا العمل على إضعاف الجبهة الداخلية المساندة لمصدق، عبر افتعال الخلافات داخلها وإثارة بعبع الخطر الشيوعي من أجل التخويف ولتهميش حزب توده، ولتجنيد أطراف في المؤسسة الدينية المحافظة ضد مصدق وإجراءاته الإصلاحية. وهي المؤسسة التي رفعت شعار:" سقوط الشاه سقوط لكل العمائم في إيران" على حد قول الشيخ ابو القاسم الكاشاني، الذي دعم في البداية قرار تأميم النفط إلاّ أنه تراجع بعد ذلك إثر استلام مبالغ نقدية من المخابرات المركزية الأمريكية، حسبما كشفت الوثائق التي أميط اللثام عنها في الولايات المتخدة في الآونة الأخيرة.
نجح الإنقلاب والغي التأميم، ليتولى الامر كونسرسيوم نفطي تعود غالبية أسهمه للشركات الأمريكية ، ولم تحصل الشركات البريطانية النفطية إلاّ على الفتات خاسرة حصة الأسد التي كانت تمتلكها قبل التأميم. وعلى غرار ما حدث في العراق لاحقا غداة انقلاب شباط 1963، بوشر في ايران بتنظيم حمامات دم ضد حزب توده وأعضائه، وفتحت ابواب السجون على مصاريعها أمام خيرة شبيبة ايران، وهُيأت ساحات الإعدام لخيرة ضباط الجيش الإيراني وجنوده من أعضاء حزب توده، وللمئات من المناضلين الشيوعيين والديمقراطيين، في حملة إرهاب لم تشهد إيران مثلها منذ الإطاحة بالسلالة القاجارية. وكان الهدف الأساس هو تصفية حزب توده كلياً، وتمهيد السبيل للهيمنة على البلاد لصالح قوى دولية، تعيش على إذكاء الحرب الباردة لتأمين تسلطها على مقدرات الشعوب.
واستمرت هذه العملية حتى بعد سقوط الشاه عام 1979، حيث أصبح حزب توده من جديد هدفاً لمخططات خارجية وداخلية لا تصب في مصلحة الشعب الإيراني، انما هذه المرة بغلاف ديني يلامس مشاعر المؤمنين البسطاء. ومن جديد أصبحت الماكنة جاهزة للتنكيل والتصفيات، بعد الهجوم على الحزب بدعاوى كاذبة من قبيل التجسس والسعي الى انقلاب عسكري ضد الحكم بدعم سوفييتي. وكان ذلك بعد أن رفع حزب توده شعار إنهاء الحرب العراقية الإيرانية، مقابل شعار السلطة آنذاك :"الطريق إلى القدس عبر كربلاء" الذي يعني إصرار الحكم على الإستمرار بتلك الحرب العبثية المهلكة، التي استمرت ثماني سنوات والحقت ما الحقت بالشعبين من الضحايا والخراب.

عرض مقالات: