في عالمنا المعاصر، عالم القرن الواحد والعشرين، حيث السرعة، والدقة، والاختصار، والاقتصاد، والتكثيف في كل شيء مطلوب أن يقوم به الانسان والآلة على السواء، تميل الكتابة الأدبية الجديدة لهذه المتطلبات في اللغة الناقلة للفكرة الإبداعية، وليس هذا معناه أن نختصر اللغة الى الحد الذي نخرج كتاباتنا الأدبية من خانة الأدب ونضعها في خانة الكتابة العلمية، أو أي كتابة أخرى، لا تعتمد اشتراطات الكتابة الابداعية، بل على الكاتب الأديب أن يضع الابداع نصب عينيه وهو يستخدم اللغة لتنقل أفكاره الإبداعية، والأديب مطالب بذلك.
وقد تعددت أوجه دراسة النصوص الأدبية، ونقدها، منذ أن وصلنا أول كتاب لمؤلف عربي – على الصعيد العربي - عن الشعر والشعراء حتى يومنا هذا. وقد كان النقاد العرب الأوائل قد اعتمدوا نظريات لدراسة النص الأدبي ونقده، منها نظرية الموازنة، ونظرية النظم، ونظرية اللفظ والمعنى، حتى وصلنا الى القرن العشرين حيث كتب المبدعون العرب رواياتهم وقصصهم القصيرة التي حاولت أن تتبع النهج والاسلوب الغربي في الكتابة، فكانت نظريات العرب الأوائل، وكذلك الدراسات النقدية التي تناولت النصوص الأدبية منذ بداية القرن العشرين الى فترة السبعينيات تعتمد في نظرتها الى النص على الذوق والتقييم والتقويم.
مع دخول العراق في عقد السبعينيات جاءت النظريات الحديثة لدراسة النص من خلال الدراسات والكتب المترجمة التي قام بها الأشقاء المصريون واللبنانيون والمغاربة، فعرفنا كيف نتناول وندرس النص من الناحية الماركسية، وكذلك من الناحية الوجودية، وبعدها جاءت الشكلانية، مع العلم أنها ولدت قبل هذه الفترة بأكثر من خمسين عاماً في الاتحاد السوفيتي، ثم جاءت النظريات البنيوية، والدلالية واللسانية، ثم ما بعد البنيوية...الخ.
بعد هذه المقدمة البسيطة التي أردنا منها أن تدخلنا في صلب ما نريد تقديمه، وهو، دراسة النص الروائي لمعرفة تماسكه من خلال دراسة لسانية له تعتمد مفهوم الاتّساق النصي، علينا أن ندرس الاتّساق، ونحدد أدواته، ومعرفة كيف برزت عوامله. إذ أن الاتساق هو من بين المعايير التي تجعل النص نصاً متماسكا.

الإتساق بالربط:

إنّ مفهوم "الاتّساق" كما عند محمد خطابي يقصد به: "التماسك الشّديد بين الأجزاء المشكّلة لنص أو خطاب ما، ويهتمّ فيه بالوسائل اللغوية "الشكلية" التي تصل بين العناصر، المكونة لجزء من خطاب، أو لخطاب برمّته".
يعتمد النص – أي نص، المدون والشفاهي على عناصر لغوية – شكلية - هي أدوات وصل وربط. إذ لا يقوم النص دون هذه الأدوات، ولما كان كذلك، فإن الربط یعد علاقة اتساق أساسیة في النص. فهو يربط الجملة السابقة مع الجملة اللاحقة بشكل منظم، وله دلالة، ويعطي معنى.
إذ أن تقنية الربط و الوصل تعتبر: "من أهم التقنيات التي تؤكِّد اتِّساق الخطاب من عدمه، وفي الدراسات البلاغية هو الوصل بين الجمل أو عطف بعضها على بعض". فالربط والوصل في هذه الحالة علاقة اتّساق ضروریة في النص ليظل متماسكاً.
وقد قسم الباحثون والدارسون الربط إلى أربعة عناصر من حيث وظيفتها هي: ربط إضافي، ربط عكسي، وربط سببي، وربط زماني.
الربط الإضافي، يحدث بأداتین، هما "الواو" و "أو". إذ يقوم بربط صورتین بینهما تشابه أو اتحاد.
العكسي، يحدث بأدوات، هي: "لكن"، "رغم ذلك = على الرغم "، "بل"، "غیر أن".
الربط السببي، ویمكننا أن نعرف العلاقة المنطقیة بین جملتین أو أكثر من خلال الأداوت التي هي: "هكذا" و"لعل"، "أي"، و"إذن".
فيما الربط الزمني، يتم بین جملتین متباعدتین أو متتابعتین زمنیاً، وتتم بالأدوات: "ثم" و"بعد" و"منذ" و"على نحو" و"الفاء".
وقد تناولنا في دراسة رواية "الشهداء الخونة"، لحسن كريم عاتي، الأدوات أعلاه، تناولاً تطبيقياً لقياس مساهمتها في تحقيق الاتّساق النصي الذي يمنح النص الروائي مشروعيته النصية.
هذه الأدوات، لا تربط الجمل فيما بينها ربطاً وحيداً فحسب، بل هي تربط الأفكار والرؤى والصور، لكي يكون النص كاملاً ومتماسكاً، وخالي من الفجوات الإبداعية، ويصل حد معرفة الدلالات من خلال استعمال مفهوم الانسجام أيضاً.
العيّنات: العيّنة الأولى: "لم أتنبه إلا على صرخة واحدة موجعة مقطوعة {0}، لم تكمل أنينها {0}، في صمت رافق التكبير لصلاة الفجر في غبش لم أذق فيه النوم {0}. أمسكت قلبي الذي طفر من مكانه صوب بيته {0}. ضاعت الصرخة في فراغ لف الزقاق {و} المدينة. صرخة يتيمة كيتمي يوم قتلوا أبي لإرغامه على صمت مماثل للصمت الذي يغلف فواجع الصبح الذي أنشق عنها قبل قليل {0}. أرقب المارة من نافذة غرفتي المطلة على الزقاق{0}. خرج رجال من الجيران على صوت الصرخة التي أفزعت الجميع {0}، يهرولون باتجاه الصوت {0}، وهم ينزلون أكمام أثوابهم على ماء الوضوء لصلاة الصبح{0}، الذي أعلن حضوره بصرخة أم حسن المكتومة{0}. يعودون مسربلين بالحزن{0}. تترقرق دموع يكتمون إعلانها بأكمام الأثواب التي اختلط ماء الوضوء فيها بماء أعينهم{0}".
العيّنة الثانية: "لم يحدث أن أخذها يوماً إلى مكان من اختياره في أيام الطواف المسائي بمدينتهما {0}؛ إلا في حالات النشوة{0}، عند اللهفة للقاء الحميم{0}، {أو} السفر معاً إلى مدن الأقاصي{0}. كانت تفسر ذلك حذراً منه عليها{0}، خشية أن يلجا مكاناً يستدل عليها فيه احد أبنائها الذين توزعوا بين أحياء المدينة{0}؛ بعد أن تمكنوا من بناء عوالمهم الخاصة{0}، {ف} بقيت خياراته للطواف في المدينة خفية لا تعلمها{0}. عرف الأماكن التي ترغب ارتيادها{0}، {أو} اعتادت المرور بها.{و} كأنه يحسب لحظة فراق آتية لا ريب فيها.{و} لتكون خياراته مفتوحة على مجهول لها{0}، لم تتبين لها حتى بعد الفراق{0}. على أمل التحايل لاصطياد لحظة لقاء معها(0)، عند الجفوة(0)، في مكان سبق أن أثثا ذاكرته بصورتهما المعلقة بغيمة صورتهما على سقفه(0)".
"(
على الرغم) من مساحة الرسالة التي تأخذ في حساب الشركة "9" وحدات {0}، كل وحدة منها تصلح رسالة مستقلة بذاتها{0}. {ف} إنها تنم عن ألم ممض لمرسلها {0}. {و} ان محاولته اصطناع الجفاء تحمل في داخلها توسلاً عميقاً للتوصل{0}. حتى ان الاستعانة بالمفردات{و} اضفاء صفات النبل لقاتلته استجداء لحبها بطريقة ذكية{0}، {و} هو ما يرجح لدي انه على مستوى جيد من التعليم{0}، {و} قد يكون ممتهناً للكتابة{او} يتخذها هواية له{0}، مجرد تخمين{0}، لا امتلك الدليل عليه {0}. قد يخطئ مثل هذا الاجراء لتداول الخطوط بين المشتركين{0}، يكفي استنتاجي لذكاء المرسل ان يقرن رسالته بالجملة الاخيرة// {و} قتلي بالجفاء الذي أتمناه".
ان العينات المختارة بصورة اعتباطية بيّنت للدارس مدى بلاغة النص الروائي في رواية "الشهداء الخونة"، وقد اعتمد الكاتب على إيجازه البلاغي، وكان كل ذلك تحمّلته لغة الرواية، من خلال استعمال أدوات الربط والوصل بين الجمل، أو داخلها.
يستطيع أي كاتب روائي أن يستخدم كل أدوات الربط والوصل أثناء الكتابة دون أن يرف له جفن الخشية من أن يعيب عليه النقاد والدارسون عمله هذا، ولكنهم سيعيبون عليه لو أنه لم يأخذ بنظر الاعتبار التوتر الذي يبدو فيه عمله الروائي، من حيث سرعة أو بطء النص، خاصة ونحن نعيش أجواء القرن الواحد والعشرين السريعة والدقيقة كأكلة السندويج في وقت الغداء.
وكذلك، وهو المهم في دراستنا هذه ، فقد استخدم أداة الربط "الواو"، بنوعيها الشكلي والمعنوي، فيما قلل من باقي الأدوات لمعرفته التامة بأن "الواو" – بإرادته أو عدمها - لها مفعول قوي في الربط ،فيكون عند ذاك نصه متماسكاً و بالوقت نفسه مكثفاً، وموجزاً بلاغياً.
فيما ترك في مواضع كثيرة وضع أداة الربط أما بصورة عامدة خشية التكرار الممل، أو بدونها، وهذا الاستغناء عنها هو من صلب بلاغة النص، مع العلم أن هجرها لا يخل ببناء و دلالات النص فيما لو كان هذا الهجر جاء بصورة بلاغية متمكنة وغير قسرية. وإن كل جمله غير مربوطة بأداة ربط نجد فيها ضميراً يعود الى شخصية الرواية، وهكذا تجسد الاتّساق بالترابط الحاصل.
قد بينت لنا الخلاصة نتائج مادية ملموسة في استخدام اللغة، إذ فرّغها من كل أدوات الربط إلّا في بعض المواقع القليلة. ولو كانت دراستنا هذه لا تخشى الاطالة، ودَرَسَت الانسجام الذي يهتم بالدلالة، لأمكننا أن نعرف أين بدت الرواية مسرعة، ومتى بدت بطيئة، وهل ذاك جاء لمقتضيات بلاغة الرواية، أم أنه جاء دون وعي و إدراك من الكاتب؟
ان النتائج المتحصلة من استخدام أدوات الربط و الوصل في العينات التي اختارتها الدراسة قليلة جداً، بحيث أن الكاتب قد استخدم أربعة أدوات هي: "الواو" و"أو "و" على الرغم" و"الفاء". وعلى الرغم من ذلك فقد ساعدت في تماسك النص، ومنحته ميزة بلاغية، لأن من مميزات اللغة العربية التكثيف، والايجاز، والاقتصاد في استخدامها للأدوات، مهما كان نوعها، ومنها أدوات الربط.
ولو أخذنا العيّنة الثالثة وفككناها الى عناصرها لوجدنا أن أدوات الربط والوصل في هذا النص تنوعت بين الأدوات الشكلية، والأدوات المعنوية، وقد استخدمت" الواو" أكثر من الأدوات الأخرى، إذ استعملها أربع مرات بين أن تكون شكلية أو معنوية، لأنه الأنسب للربط. بعدها تساوى استخدام "الفاء" مع "أو" و" على رغم"، إذ تنم هذه "الفاء" عن الترتيب، وقد ربطت السبب بالنتيجة. ثم وردت الأداة "على الرغم "الخاصة بالربط العكسي للجمل أو المقاطع. أما "أو" فقد استخدمت مرة واحدة ، للتأرجح بين فعلين.
أما الجمل الخالية من أي أداة فالمجموع الكلي هو "29" أداة.

عرض مقالات: