ترى كيف لشاعر أن يكتب قصيدة أو مجموعة شعرية ويسميها "أسعد إنسان في العالم"؟ وهو الغارق في البؤس والحزن حد الثمالة، حتماً أنه شاعر يضيء السماء بقصائده، ولتجربته الشعرية المميزة نكهة خاصة في الأوساط الثقافية العراقية والعربية، ودائماً ما يكتب قصيدة بمواصفات عالية وتكنيك ورؤى ثاقبة بنكهة سريالية يزج بها داخل نصوصه، فهو شاعر ذو مذاق يختلف عن شعراء كثيرين لكونه ضاج بالمفارقات التي تدهش القارئ وتجعله يتابع مسار القصيدة حتى نهايتها من دون ملل، وأحيانا يتمنى القارئ لو ان قصيدته لا تنتهي، انه كزار حنتوش الشاعر الذي يكتب القصيدة بلغة فصيحة يفهمها الناس من دون تعقيدات، لكنه يجعل قصيدته تمشي في أماكن وعرة ومناطق لا يطأها إلا الشعراء في نصوصهم وليس باجسادهم وبهذا يكون كزار قد أطلق "صعادات شعرية" في كل جملة يقولها وهو يؤشر على أماكن الخلل الإنساني في الجوع والألم والخوف والحرية والغربة ووحشة الجيوب الخاوية. وفي أوآخر الثمانينات كنتُ أجلس معه ومع مجموعة من الشعراء، أتابع انشغالهم في كتابة قصيدة قد تخرج من قلوبهم مثل وردة متفتحة للتو.
كان الشاعر كزار حنتوش يكتب دفاعا عن الفقراء والمحرومين ويأخذ بأيديهم الى السماء العالية بعيداً عن الطغاة والظالمين، فالحزن لدى الشاعر ثيمة في أغلب قصائده، لكنه بالمقابل يسخر من الأشياء رغم الجراحات المثخنة، ويمتلك خيالا واسعا متشعب الأفق ويكتب قصيدة التفعيلة برمزية يفرضها الواقع المرير عليه لكنه لا يلتزم الرمزية في أحايين كثيرة، الأمر الذي تخرج بعض الجمل في بعض نصوصه وهي تؤشر بأصابع الإتهام للذين كانوا السبب في تدمير البلاد، فهو شاعر همومه الشعرية أكثر من همومه الشخصية.
أصدر الشاعر كزار حنتوش عام 2001 مجموعة شعرية بعنوان "أسعد إنسان في العالم" وهو عنوان قصيدة داخل المجموعة وفيه من الغرابة الكثير، فالسعادة يصورها وهو يمشي مثل زهرة متفتحة تحت أشجار النارنج بإتجاه صديقه الشاعر وسيحدثه عن الشعر وعن الجوع الذي سوف يسده من خلال شوربة العدس وشعار يوسف الصائغ، لكنه يمتلك الكثير من الحزن المعتق الذي يكفيه ليسكر بدون مقابل! فالجيوب خاوية لكن يكفيه دفتر شيكات من بنك السياب الذهبي وهو تصوير رائع وتشبيه فاخر بأن يشبه السياب وشعره ببنك ذهبي، ثم يمشي الشاعر في قصيدته تحت سماء يكثر فيها الرعد وحنان الشعب وتحت طيور بيض، فمن قصائد يوسف الصائغ والسياب سيمرّ الشاعر بأمان مطلق رغم الأجواء العاصفة التي شبهها بالسماء المرعدة داخل القصيدة، انه يعطينا درساً شعريا بليغاً يصعب على شعراء الأجيال الجديدة أن تستوعبه في تلك المتاهات التي نمرّ بها. يقول في قصيدته:
أمشي ريانًا كزهورٍ تحت النارنجْ
صوبَ صديقي الشاعرْ
المعْدَةُ تكفيها حفنة "باقلاّءٍ" و"عدسْ"
تكفيها أشعار كرستالٍ للصائغ يوسفْ
ولديَّ من الأحزانْ ، ما يكفيني سُـكرًا بالمجانْ
والجيب هو الآخرْ
أفلا تكفيه دفتر شيكات من بنك السيّاب الذهبي
أمشي تحت سماءٍ مرعدةٍ
تحت حنان الشعبِ ، تحت طيورٍ بيضٍ
تبغي مأمنها في منتجعٍ آخرْ
أمشي ريانًا كزهور تحت النارنجْ
صوب الطرف الآخرْ ..

عرض مقالات: