من جديد يعود الشاعر والناقد ريسان الخزعلي الى ممارسة هوايته الاستقصائية، والنبش في تربة الشعر والشعراء بحثا عن أسرار ربما اختبأت أو خبئت برغبة شخص أو كيان أو ظروف غير معروفة، وهذه المرة كان استقصاء الخزعلي خطيرا، فهو يستقصي أسراراً شخصية غير عادية، شخصية شاعر ملأ الكون وشغل الناس عبر تجربة شعرية ونضالية كبيرة ومترامية الأطراف. الخزعلي هذه المرة وعبر كتاب جديد، ذهب ليستقصي أسرار الشاعر الكبير مظفر النواب، فهاهو يضع بين أيدينا كتابه الحادي والعشرين والذي كانت ثريته (مظفر النواب / الأسرار القصية في الشعر الشعبي) وهو عنوان كبير وخطير يجبرك على متابعة نتائج هذا الاستقصاء العظيم.

الكتاب الذي صدر عن دار قناديل للنشر والتوزيع جاء باكثر من (250) صفحة من القطع المتوسط وتضمن سبعة عشر باباً بحثياً استقصائياً بضمنها مقدمتان كتبهما الخزعلي نفسه، حيث يقول في تقديمه الأول ما نصه " لقد كان تحركي هذا في القراءة محكوماًبأهدافه منذ البدء، حيث لم أضع هدفاً فوق هدف الكشف عن العناصر الفنية / الجمالية في القصيدة الشعبية الحديثة، وقد كان للشاعر الكبير مظفر النواب المساحة الأكبر في قراءتي، كونه الشاعر المجدد الأول، تاريخياً وفنياً، واني لا أفترض لدراستي هذه أن تكون متكاملة، حتى وان حاولت جاهداً في هذا الإتجاه..، فالطموح شيء والمنجز المحقق  شيء آخر".

من خلال هذا التقديم الأول نكتشف ان الناقد ريسان الخزعلي، لم يرغب في تقصي أسرار الشاعر الكبير مظفر النواب، بل هو يستقصي مساحة الشعر الشعبي الحديث بكامل تفاصيلها، لكنه ارتأى ان تكون المساحة الأكبر للنواب بصفته رائد الحداثة والمجدد الأول في الشعر الشعبي، وهي مهمة صعبة تضعه أمام مسؤولية التبحّر عميقاً في هذه المساحة  الواسعة.

أما في التقديم الثاني  فيقول الخزعلي" لقد كان النواب في مواجهته الشعرية التجديدية، مثقفاً موهوباً، ذا تجربة كبيرة، وبذلك توافر على مقوّمات الإبداع، واستطاع ان يؤسس لحداثة الشعر الشعبي العراقي، وان يصل الى جمهور عريض بشهرة إبداعية ستستمر طويلاً..، ولمظفر جمهور واسع قد يضاهي البياتي والجواهري، الا ان الأهم من ذلك أنه استطاع ان يكون رأس مدرسة في الشعر الشعبي".

وهنا يريد ريسان الخزعلي ان يؤكد على أن الكبير مظفر النواب استطاع ان يؤسس لنفسه وللشعر الشعبي العراقي مدرسة جديدة، نظراً لكون النواب ليس مجرد شاعر، بل هو مثقف عراقي كبير، يراهن على وعيه وفكره المتقد، فكان له ذلك عندما تأسست المدرسة الحداثوية في الشعر الشعبي والتي بقي يتربع على عرش رئاستها لأكثر من ستة عقود ونصف، وهذا التأكيد يحسب للخزعلي كونه انتصر للنواب حين وضعه بمستوى شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، من حيث إيصال القصيدة".

وفي أبواب كتابه الأخرى كان الخزعلي منشغلاً بتفكيك كثير من قصائد مظفر النواب، فتارة نراه يبحث عن (حمد وريله) وهي القصيدة الأكثر رسوخاً في الذاكرة الجمعية للمتلقين العراقيين، حيث يرى الخزعلي ان هذه القصيدة تقوم على التماهي مع تجربة حب حقيقية، كان الشاعر طرفاً في الاستماع الى بعض تفاصيلها في رحلة القطار النازل الى البصرة، حيث جمعته المصادفة مع إمرأة، تجلس على مقربة منه في العربة نفسها من القطار، ويستشف الخزعلي من ذلك ان القصيدة عبارة عن تجربة واقعية، على مقربة من موهبة وثقافة وإحساس إنساني مرهف، وإنصات دقيق، حيث ان الخزعلي يرى القصيدة تتقدم بثياب جديدة وعطر جديد ومصافحات جديدة.

وفي باب آخر من أبواب الكتاب يستقصي ريسان الخزعلي (تجديد وتحديث النواب في الشعر العراقي) حيث يقول عنه "ان النواب في تجديده الذي أفضى الى التحديث، وبالتالي تجربة الحداثة في الشعر الشعبي العراقي، جعله يصطف مع رواد التجديد في الشعر العراقي والعربي، تأسيساً وأهمية وتأثيراً".

وعن جمالية الرمز في شعر مظفر النواب يقول ريسان الخزعلي في كتابه الذي نستعرضه هنا "مظفر النواب في شعره الشعبي، لا يستخدم الرمز بدلالته المعروفة مباشرة، وانما يستخدم الرمز حينما يكون قد أحسه وأدركه من مواجهات الواقع، والواقع المعاش..،أي من الإصطدام المباشر مع حركة الحياة اليومية، ولهذا تعليله، فالتجربة التي يعيشها النواب، تجربة تبني كل مقوماتها الفنية من إنعكاسات حسية حادة تضرب بعيداً على وتر متوتر في النفس، مما يجعل هذه الرموز وكأنها ملاذ وخلاص من الأزمة كما يتصور النواب ذلك".

ثم يستمر الخزعلي في استقصائه حيث يذهب الى جماليات الصورة الشعرية عند مظفر النواب، وتكون نتيجة هذا الإستقصاء كما يراها هي" ان الصورة في شعرية النواب ارتكاز جمالي أساسي طاغ، يمليه الطوفان الرومانسي الحالم على إحساس الشاعر، ولأنه ليس من أصحاب التجارب الباطنية او الذهنية، لذلك لا يأخذ التجربة من أي تماس او انجذاب، وصورته الشعرية تبعاً لذلك، تتشكل محسوسة وناطقة في ثنائية جديدة / نادرة على جماليات الصورة الشعرية في أدبيات المذهب التصويري".

وفي باب آخر يتقصى ريسان الخزعلي جماليات اللغة الشعرية عند الشاعر مظفر النواب حيث يطارد بعض قصائده ويستشف منها ما معناه "ان النواب يستخدم في جماليات تحولاته البنائية / اللغوية، تكرار اللازمة الشعرية، واللازمة كانت في القصيدة الشعبية وشكلها الأول، تقليدية إرتكازية تكميلية، لا تضيف أي ملمح فني على القصيدة".

ثم يعود الخزعلي ليؤكد " ان النواب في قصائد مجموعته الرائدة (الريل وحمد) استخدم اللازمة ، سواء كانت في الإستهلال او في نهاية المقاطع، الا انه احدث تنويعاً غير مسبوق، وذلك بتغيير التشكيل اللغوي والصوري لهذه  اللازمة".

ويستمر الخزعلي في إستقصاءاته ويكثر من البحث عن الأسرار القصيّة في الشعر العراقي ويعاود النبش في تربة القصائد التي طشها مظفر النواب على المتلقي العراقي، فترى الخزعلي وهو يضع الأسئلة سؤالاً تلو السؤال، ثم يعود ليطلعنا على الأجوبة التي تكشف تلك الأسرار، وهاهو يطرح سؤالاً خطيراً حيت يقول ( ما الذي حصل "للريل وحمد" في الطبعة الثانية؟.

ثم يعود ليخبرنا ما مفاده " ان مراجعة الشاعر لقصائده بعد قرابة أربعة عقود زمنية، تنم عن وعي تراكم بفعل تطور التجربة الحياتية / الفنية، ولا يوجد ما يقف ضد مسعى الشاعر في هذا  الإتجاه".

ويأخذنا الخزعلي ومن خلال باب آخر من كتابه في رحلة من (للريل وحمد) الى (طشة ملبس، وهي رحلة تمتد لعقود زمنية طويلة، فالفارق الزمني بين كتابة قصيدة (للريل وحمد) يقارب الخمسة عقود ونيّفا، ويحدثنا الخزعلي عن هذه الرحلة بالقول" بين القصيدة التجديدية (للريل وحمد) وهذه القصيدة مسافة زمنية تمتد لأكثر من أربعة عقود، ومثل هذا التراكم الزمني – وبعد خبرة الشاعر المتراكمة هي الأخرى – يجعلنا نتلقى القصيدة بأكثر من استعداد فني وتحت تأثير قصيدة (للريل وحمد)".

ثم يدخلنا الخزعلي من باب آخر يؤدي الى (شعرالنواب في اللحنية العراقية) حيث انه وبعد تقص عميق يخبرنا ما نصه "لم يكتب النواب شعراً من أجل الأغنية، الا ان الذي حصل هو قيام بعض الملحنين بتلحين بعض القصائد من مجموعته الأساسية (للريل وحمد) من غير علمه وموافقته الا في حالات محدودة، كما لحنت قصائد أخرى من خارج هذه المجموعة".

ويعود الخزعلي لمواصلة الإستقصاء عبر طرح الأسئلة وهذه المرة يسأل سؤالاً انتظرنا جوابه لنعرف ما الذي سيجيء بعد (للريل وحمد) فكان الجواب الذي قدمه الخزعلي هو "غادر النواب العراق عام 1969 إضطراراً، وكانت له قصائد عديدة كتبت في مراحل كتابة المجموعة الأولى (للريل وحمد) او لاحقة لها، كما انه كتب قصائد أخرى في منافيه المتعددة، الا ان كل هذا المنجز لم يصدر في كتاب حتى هذه اللحظة، ويعد ذلك خسارة فنية للشعر الشعبي العراقي، على مستوى تأصيل التجربة النوابية وعلى مستوى قراءة وتلقي التحولات الجديدة في شعره".

ثم يحدثنا ريسان الخزعلي عن القصيدة التي ينتجها الشاعر الكبير مظفر النواب ويبثها بصوت أنثى، حيث ان عنوان هذا الباب (القصيدة بصوت أنثى) تضمن إشارة من الخزعلي  عبر قوله "في الشعر الشعبي العراقي الحديث، يكون النواب أول من كتب الشعر على لسان أنثى، وله في ذلك عدة قصائد تجديدية وتحديثية، وقد أوجد ملمحاً فنياً / صوتياً واضحاً في بعض قصائد المجموعة (للريل وحمد) والقصائد الأخرى الموازية لها تأريخياً".

ومن باب آخر ندخل للثورة النوابية التي تطرق لها الناقد الدكتور (حسين سرمك سلمان) في كتابه المعنون (الثورة النوابية – دراسة اسلوبية في الشعر العامي للمبدع مظفر النواب، وعبر عنوان (الثورة النوابية .. أكثر من إشادة .. أكثر من إشارة) وهنا يحدثنا الخزعلي عن هذه الثورة بالقول "ان كتاب (الثورة النوابية – دراسة اسلوبية في الشعر العامي للمبدع مظفر النواب) تتقدم فيه الإشادة قبل الإشارة، وقد وجدت من المفيد أن أضمنها في كتابي هذا، لأن ثمة تخاطرات نويت أن أذكرها، الا ان السبق كان للناقد".

ويختم ريسان الخزعلي رحلة استقصائه بعرض مجموعة قصائد تحديثية كنماذج للتجربة الشعرية الكبيرة للشاعر العظيم مظفر النواب.

عرض مقالات: