تناولت رواية "زهر القرابين" لناهي العامري، موضوع انتفاضة الشعب العراقي في تشرين الأول "أكتوبر" عام 2019، حاول الكاتب تجاوز الأسلوب الصحفي ممارسا طريقة السرد الروائي بتقديم الشخصيات الفاعلة في الحدث بانتقاء رمزي من جمهرة المساهمين في هذا الفعل الوطني من " طلاب، أكاديميين، محامين، عمال، معلمين، منظمات مجتمع مدني، أدباء، عشائر، موكب حسيني. " ولم يذكر دور الأحزاب والمنظمات في هذه الانتفاضة، علما انها كانت موجودة بثقلها دون استخدام اسمائها الصريحة وضمن أبرز المساهمين إيجابيا وفي كل سوحها بغداد والمحافظات، كان الحزب الشيوعي العراقي الذي قدم عددا من الشهداء. إلى جانب الشباب والأكاديميين والطلبة فكانت ثورة حقيقية.. حاول الكاتب اعطاءها بعدا شعبيا واسعا.
بدأ روايته بقصة شخصية أجنبية هي السيدة والش (سولدي) واحتلت سبع حلقات ختم بها روايته. والسيدة هذه ناشطة مدنية وصحفية من مدينة (أسلو) في النروج، كرست حياتها كلها لعملها بعد أن انفصلت عن زوجها قبل أن تبلغ سنها الأربعين. وكانت لها مواقفها الخاصة المستقلة ولذلك اختلفت مع وكالة الشرق الإخبارية، لكنها فوجئت بدعوتها من قبل مدير الوكالة، يكلفها بمهمة صحفية في العراق الذي زارته قبل سقوط نظام صدام حسين ولم تنج من مضايقة السلطة لها، إذ لم تحصل على حريتها كصحفية ومن مواصفاتها اجادة العربية التي درستها مع وجود لكنة في نطقها، وهذه هي أبرز صفاتها التي دفعت الوكالة لتكليفها بهذه المهمة كشاهد عيان على زمنين في العراق قبل وبعد سقوط نظام البعث وزمن اندلاع انتفاضة تشرين.
ومنذ البداية تتعرف على مترجم عراقي اسمه إبراهيم، عين مرافقا لها، حاصل على بكالوريوس إنكليزي ثم ماجستير في الاختصاص ذاته، ضيع ثمانية أعوام من عمره عاطل عن العمل، التحق بالانتفاضة منذ اندلاعها، وبسبب سولدي حصل على عمل. ومنذ البداية يتعرف على معنى اسمها وكشفت عنه قائلة: (تضامن)، وهكذا انسجم الاسم مع الفعل، وفي الحلقة الثانية كما رقمها الكاتب تقرر زيارة الناصرية وزيارة عائلة الشهيدة سامية، وبعد استقبالها الكريم من قبل والدة الشهيدة تطلب منها مذكرات سامية وتحصل عليها، على أن تردها بعد الاطلاع عليها وتحصل هذه الزيارة بمساعدة الشاب أحمد صديق إبراهيم.
وفي الحلقة الثالثة تكشف الصحفية الأجنبية من مذكرات الشهيدة سامية ومن خلال الصور -التي احتفظ بها إبراهيم، وصورها طالب- المعبرة عن مدى شجاعة المنتفضين. واعجبت بشجاعة طالب. وخرجت بتقرير نشرته وكالة الشرق الإخبارية وأعيد عرضه لمرات عديدة ولاقى استحسان العديد من القراء والمشاهدين.
في الحلقة الرابعة تكشف عن تجربة إبراهيم في التآمر عن طريق أصحاب القبعات الملونة الخضر والحمر والزرق بحجة حماية المتظاهرين لكنهم أدخلوا حتى العاهرات لتسقيط وتشويه الانتفاضة. لذلك طلبت الصحفية القيام بجولة مع إبراهيم في ساحة التحرير. كان يصف لها مواقع الشباب والشابات المتمسكين بحقوق شعبهم حتى الاستشهاد كما جرى للشهيدة سامية وحبيبها الشهيد حسين. وشاهدت بقايا الأعمال التشكيلية لطلاب الفنون حينها أدركت: " كم هو هائل حجم التآمر الذي حيك ضد ثورة الشباب، لا ريب أنه مواز لذلك الثبات".
وفي الحلقة الخامسة تنتهي السيدة سولدي من قراءة ترجمة يوميات ثورة أكتوبر التي كتبتها الشهيدة سامية، وقد خرجت باستنتاج:" لولا وباء كورونا لاستحال على القوات الأمنية زحزحة الثوار من أماكنهم".
وفي الحلقة السادسة تعبر السيدة (ألش) عن استلهامها ليوميات الثورة والتي كتبت عنها العديد من التقارير والمقالات والقصص الخبرية، وآمنت بان ثورة أكتوبر العراقية هي من الثورات العظيمة في العالم، الى جانب شعورها بنجاح مهمتها سعت للبحث عن " الحلقة المفقودة في يوميات الثورة". وحاولت استعادة ما كتبه طالب في يومياته رغم انكساره وتوقفه عن مواصلة الكتابة.
وفي الحلقة السابعة والأخيرة سواء من تجربة السيدة الش سولدي وهي عودتها إلى الناصرية لتسليم مذكرات الشهيدة سامية كما وعدت أمها وكذلك لمعرفة المزيد عن الشهيدة من خلال أحمد الذي كشف عن تضارب الأخبار عن مصيرها وتنتهي الرواية بهذا الخبر: " إن أحد رواد مقبرة السلام رآها بأم عينه وهي جاثية أمام شاهدة قبر الشهيد حسين"... وهو نهاية غريبة، ولكنها تدفع القارئ للتفكير والتأمل والحيرة بين قبولها ورفضها.
اما القصة الثانية (بيت طالب) وهي من ست حلقات تجسد حياة طالب نادم مظلوم شخصية الصحفي العراقي المتضامن مع جمهور المنتفضين، بل هو أحدهم على الرغم من خروجه توا من مشفى للأمراض النفسية، وتجاوزا للعهد الذي قطعه أمام والدته التي كانت ترفض زيارته لسوح التظاهرات خوفا عليه، وكان يشعر مدى تأثير ذلك الخرق على صحتها، لكن ما بداخله كان أقوى ليس بحكم عمله، بل انجذابا لطبيعة التظاهرات الشبابية وسعتها وتميزها عن كل الفعاليات التي سبقتها. وأمام موقفه القوي هذا تتراجع والدته ويتضامن معها والده، فتستجيب لمشاعره وتخفف الذنب الذي كان يشعر به اتجاهها، بل بدأت تحثه على المضي بطريقه النبيل، وهنا نجح الكاتب في جعل هذه العائلة أنموذجا لكل العوائل العراقية التي تدفع أبناءها وبناتها وقودا لهذا الفعل الوطني.
وفي الحلقة الثالثة يتحول (بيت الطالب) وتحديدا أم طالب إلى داعية مساندة لولدها وتأخذ منه أخبار حركة الانتفاضة وتنقلها لمعارفها، إضافة لما تسمعه من وسائل الإعلام الفضائية، وكانت تستقبل ولدها عند عودته فرحة سعيدة به. تأخذ تفاصيل يومية عن الوفود المناصرة لثورة الشباب، وحدثها عن امرأة عجوز تدعم أحفادها، عن طريق "بسطيتها" البسيطة. التي طورتها وحولتها إلى" ورشة ضد الاختناق من دخان القنابل المسيلة للدموع". تقضي يومها جالسة في ظل أشجار حديقة الأمة. وكان يقص لها حكايات النساء اللاتي ودعن بيوتهن ويتواجدن يوميا في سوح الانتفاضة، يعدن الطعام لكل المتواجدين في حدود الساحتين ووسطهما. كان يشعر بفرحها وتضامنها ومحبتها لكل ما يجري هناك. وأخبرها عن طالبات الطب المتطوعات لتنظيف الساحات.
وفي الحلقة الرابعة تبدو الام متفاعلة معه، وتعبر عنه باستقبالها لولدها بقبلاتها وفرحها الواضح، وتشجيعها له. وانتظار سماع الأخبار منه فيخبرها عن طلبة معهد الفنون، الذين حولوا وادي النفق إلى أكبر معرض فني تشكيلي. وحدثها عن الموكب الحسيني فزاد من دهشتها، ذكر لها خبرا عن سامية التي فجعت باستشهاد حبيبها وعن النازحات ومعاناتهن وبحاجة لمن يأتمن إليه فيكشفن عن معاناتهن، وقد عبرن عن شعورهن بوجود وطن لهن في الساحة، بعد تهجيرهن من قبل داعش. وشعرت أمه بأن الوقت قد حان للالتحاق بوطن الانتفاضة.
وفي الحلقة الخامسة يعلم المتلقي أن أم طالب وأبيه وصلا إلى الناصرية مع سامية، واستقبلت من أهلها استقبالا جميلا ومع الشكر والتكريم لأم طالب وزوجها اللذين حققا هذه الأمنية. وحصلت عائلة سامية على كل المبررات التي تبرر غياب ابنتهم وأنها عاشت بوضع سليم مع هذه العائلة، وهذه الحقائق خلصتهم من كل الشائعات المغرضة، فكانت فرحتهم عظيمة.
وفي الحلقة السادسة والأخيرة من قصة (بيت طالب) يلتقي طالب بأمه ووالده بعد عودتها من الناصرية فيسألهما عن سامية وكيف حصلت علاقتها بالشهيد حسين ذي الشخصية القوية والثقافة العالية مما جعل سامية تحبه وتلتحق معه في ساحة التحرير. وعن أحمد واستقباله لهما، رغم أن أباه يعمل بأجر يومي لكنه تحمل أعباء دراسته حتى تخرجه من الكلية لكنه لم يحصل على عمل.
وفي (اليوميات) تبين النشاط الفعلي للمنتفضين.
ولا أدري لماذا لم يسمِ هذه اليوميات باسم (يوميات الصحفي طالب) لأنه كان هو الراوي الوحيد لأحد عشرة حلقة. وقد أشرك فيها والدته والتي بدأت بمساعدته وتعرفت على مجاميع كثيرة من المنتفضين. وساهمت في عودة سامية لديارها.
وشملت اليوميات مذكرات طالب، مشبرا إلى خيمة الأكاديميين، وزاد فضوله لمعرفة سبب حضورهم اللافت في الساحة التي لا تخلو من وجود (سحر والزعيم) ودورهما التخريبي. ورسم دورهما واعمامه في صفوف المنتفضين. وحاولا إيجاد أثر لطالب في المكان لكنهما لم يعثرا عليه. فشعروا بالفشل والخيبة وحاولا البحث عن طرف ثالث لكبح هذا التمرد المتمثل بالمنظمات السرية وجواسيس الحروب. وتم اغتيال الناشط هادي المهدي. ولكن "الزعيم" أظهر نفسه أمام التحقيق أنه المدافع الأساسي عن الانتفاضة ليؤكد زعامته "للمنظمة الأمنية". ولتأكيد فساد هذه الشخصية، يعلن الكاتب عن وجود علاقة غير شرعية بين الزعيم وسحر.
وفي الحلقة الثانية يعقد القائد الأمني لقاء مع سحر والزعيم ويبلغهم بفشل كل خططهم ويطالبهم بتوسيع الخطف والاغتيالات، وتساءل "عن سر تصاعد عزيمة المنتفضين طرديا عدد قتلاهم، وارتفاع التضامن والتآزر والتلاحم معهم" وطالبهم بحلول وطرح أحدهم فكرة الهدنة والمفاوضات مع نشطاء الشباب. ولكن القائد لم تعجبه كل هذه الآراء.
ويؤكد الكاتب فشل كل تلك الأساليب اللاشرعية، مما جعل الزعيم يلجأ إلى وباء كورونا لقمع الحراك الجماهيري. وبدأ بحضر التجوال. نجح الروائي ناهي العامري في توظيف نسق الاسترجاع عن طريق الحلقة الأولى من (نذير الماضي) من خلال استذكار طالب ووالدته شيئا من ماضيهما. وركز الكاتب على شخصية طالب الذي يكاد أن يكون الشخصية الرئيسة في الرواية.
يسترجع (فاهم) شقيق طالب دور أخيه في مظاهرات الجمع التي اندلعت في 31 تموز 2015، ثم انتكاساته.
ان الحوارات بين شخيصات الرواية أوصلت الكاتب الى معلومات عن انتقال مركز انتفاضة الشباب إلى ساحة الحبوبي. وتواردت الأنباء عن اغتيال الأم المسنة التي قادت انتفاضة الشباب في العمارة. وهكذا استطاع الراوي الوصول الى جملة من المعلومات الإيجابية أو السلبية، النجاح في إعطاء صورة واضحة عن تطورات أحداث انتفاضة أكتوبر ونهايتها في حبكة وتسلسل ومرونة في الانتقال من حدث إلى آخر مما جعل مضمون هذه الرواية وثيقة تاريخية تفيد الأجيال القادمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب
في العراق/ 2022