الانسان وأفكاره ومشاعره وعلاقاته الاجتماعية وكل بنى كينونته نتاج الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه من دون اغفال لإرثه الجيني الذي يساهم بشكل وبآخر في صياغته الوجودية لكن هذا الارث لا يقاس بما يكتسبه الانسان من قيم ومعان حياتية أثناء حركته في المجتمع وتفاعله مع الواقع. الانسان الذي يعاصر واقعين اجتماعيين مختلفين سيكون أشبه بانسانيين قد لايتعرف أحدهما على الآخر.
الانسان الذي يعيش في نظام سياسي اجتماعي بنته الجماهير بارادة حرة وبوعي ثوري قائم على العدالة الاجتماعية ودولة المؤسسات وازدهار في النظم التعليمية والصحية والتطور الدائم للمؤسسات الصناعية والزراعية واحتكام البلد الى النظم الدستورية والقانونية الرصينة التي لا تفرق بين هذا المواطن وذاك مهما كانت مكانته الاجتماعية ومرتبته في السلم الوظيفي، هذا الانسان سيشهد نمو وعيه الاجتماعي وازدهار قيمه الثقافية والروحية ويتعمق لديه الشعور الوطني لأن كل القيم الحياتية والبنى العقلية والنفسية هي نتاج النظام الاقتصادي الذي يمسك بزمام العملية السياسية في البلد مضافا اليه بعض العوامل التأريخية. قد يمتد العمر بهذا الانسان ليشهد انهيار هذا النظام السياسي بمؤامرات احيكت ضده وتكالبت عليه قوى الشر الداخلية والخارجية وبسببها تهدمت كل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستبدلت ببنى هزيلة وتم تحييد دور الجماهير وتربعت على عرش السلطة السياسية قوى رجعية غريبة يرتهن وجودها كأذناب الى بعض بلدان الجوار وتأتمر بقوى الاستعمار والاحتكار لا هم لديها سوى تلبية مصالحها الرجعية وربط البلد بعجلة الراسمال والقوى الصهيونية الأمريكية والاستحواذ على خيرات البلد وخلق الفوضى وتغييب العدالة الاجتماعية واثارة النعرات الدينية والطائفية والعرقية لإدامة سلطتها السياسية واشاعة قيم رأس المال وبناء نظام اقتصادي مشوه أحادي ريعي يعتمد كليا على النفط وقيام المسؤولين بتهريبه وتصديره لجلب الاموال التي تكون عادة في جيوب السياسيين الفاسدين ولا يحصل المواطن منها الا على الفتات مما يخلق فجوة كبيرة بين طبقات المجتمع، اعداد قليلة تمتلك المليارات والحياة الباذخة وعامة الشعب يتضور جوعا، يبقى ينتظر الهبات التي تقدمها الحكومة بعد أن يتم تخريب المؤسسات الصناعية والزراعية ويصبح المواطن عاطلا عن العمل وتتخم الدوائر الحكومية بالفائضين الباحثين عن لقمة العيش وهم يعرفون أن لا انتاج يُقدم والجميع يصبح عالة على جسد الدولة التي عليها أن تطعمهم حتى وان قررت بيع البلد الى المتربصين به والكارهين له من أجل توفير الأموال لارضاء الأسياد وتمويه الشعب بأن الخير قادم وعلى الجميع شدّ الأحزمة على البطون (والشعور بالشبع الحقيقي هناك في الدار الآخرة) وهذا ما تعمل عليه المؤسسات الدينية الظهير القوي لمثل هكذا نظام سياسي فاشل وتعمل جاهدة في الحفاظ عليه وتحريم الاقتراب منه واشاعة الأوهام والخرافات بين أبناء الشعب وتهيئة الأذهان الى أن ما يحصل من خراب اجتماعي وعوز وفقر لارتكاب المجتمع المعاصي فوقع عليه العقاب الالهي والمواطن المؤمن هو من عليه ان يتحمل هذا البلاء ويصبر لأن سعادته الحقة هناك في الدار الآخرة حيث أنهار الخمر والحور العين وكل ما تشتهيه الأنفس والبطون وهذا ما يُرى ويُسمع من معتقدات دينية في العديد من البلدان التي حصلت بها ارتدادات سياسية واجتماعية ومنها العراق. الانسان ابن هذا الواقع الجديد سيجد أن منظومات القيم تتغير بالكامل وينحسر الوعي الاجتماعي الى أقصى درجاته وتنفذ الى عقله مفاهيم وأفكار هجينة ويصبح اشباع الغرائز الحسية عنده من الأولويات التي يقاتل من أجل الحصول عليها، تتضخم لديه شهوات الجنس والمظاهر الاجتماعية البراقة الزائفة في اقتناء أفخم السيارات الحديثة وبناء البيوت الفارهة واشباع نهمه بتناول الوجبات الدسمة الشهية في أفخم المطاعم والكافيهات وكل القيم الأخلاقية تذوب أمام المال وجمعه سواء بالطرق المشروعة أو غير المشروعة ويساهم هذا الانسان بوعي في تهتك النسيج الاجتماعي وينقطع عن واقعه ويعيش في عالم زائف بلا مبادىء وأفكار علمية وبلا ثقافة.
ورغم كل الممكنات المادية التي يمتلكها من سيارة حديثة وبيت على الطراز الحديث وشهادة جامعية تعلق على حائط كبريائه وحضور نشط في مواقع التواصل الاجتماعي، الا أن وعيه الاجتماعي يتدنى ويصبح جزءً من قطيع يساق الى مذبح السياسي الفاشل. عند هذه العتبة من التراجع تغدو عملية تغيير المجتمع عسيرة، وان حصلت احتجاجات على النظام هنا وهناك فليس من أجل تغيير النظام السياسي بل لتحقيق المصالح الفئوية لهذه الجماعة أو تلك لأنه لا يوجد هم وطني وأفكار مدنية طليعية تجتمع عندها فئات المجتمع كافة. حتى الانسان الواعي الذي عاش الواقعين المختلفين سيجد بأنه محاصر بقيم وأخلاقيات الواقع الجديد وتنفذ اليه من هنا وهناك مفاهيم غريبة لم يألفها سابقا مما تخلق عنده الكثير من الرؤى الضبابية والتنصل عن بعض المواقف والافكار التي كان يؤمن بها سابقا وحين ينتبه ويخلو الى نفسه سيجد بأنه أصبح انسانا آخر، يعيش الصراع بين الوجود والعدم وهذا ما يدفعه الى الانكفاء على ذاته والانغلاق الروحي وتخلقان لديه نوعا من الفصام النفسي الذي لا يعرف سبيلا للتخلص منه.
المجتمعات المتحضرة السليمة ينعم أبناؤها بوعي اجتماعي حاد في حين يصاب بالنكوص وينعدم في مجتمعات الرثاثة والتحلل والهمجية والتخلف لنجد أن المجتمع في النهاية مفكك ويتحول الى العديد من الكيانات الطائفية والمذهبية والعرقية لا علاقة لها بشيء اسمه وطن ونسيج أرضها وبيوتها ونفوس أبنائها ممزق يبعث على القلق والحيرة والشفقة..