في صيف عام 1997 وصل الدكتور الناقد علي عباس علوان الى العاصمة الأردنية عمّان، كانت فرحة الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي لا توصف بوجوده، فهو صديق قديم للبياتي، ويعتبر الدكتور علي من أكثر النقاد العرب معرفة بشعر الرواد وبخاصة شعر البياتي، وكان يقول: "إذا كان السياب قد وظف الأسطورة في القصيدة العربية فالبياتي أضاف اليها القناع والأسطورة". ولم يمّر يوماً من الأيام إلا وكان البياتي والدكتور علي عباس في جلساتهما اليومية يبذلان قصارى جهدهما من أجل الوصول بالثقافة العراقية وإبداعها الى مكانتها العالية، فأتفقا على إقامة الأمسيات الثقافية للمبدعين الذين كانوا داخل العراق في تلك الفترة يرزحون تحت وطأة الحصار وتهميش السلطة لهم.
أول أمسية كبيرة بحق في العاصمة عمّان أقيمت احتفاءً بالقاص الكبير محمد خضير، وقاد الدكتور علي عباس علوان الاحتفالية بطريقة اكثر من رائعة، وكان وجود البياتي في المقدمة ومشاركات كثيرة لادباء ونقاد عراقيين وعرب وحضور شخصيات سياسية وثقافية كبيرة من المملكة الأردنية الأمر الذي جعل الصحافة العربية في حينها كتبت عن هذه الأمسية التي ما زالت خالدة في الذاكرة.
كنتُ شاهداً على كل اللقاءات ما بين البياتي والدكتور علوان الذي كان يخطط للكثير من المشاريع الثقافية التي تخدم ثقافتنا وكان يكتب الكثير من الدراسات ويشرف على الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه لطلبة أردنيين، وكنت أرافقه في كل طرقه التي تؤدي الى المنفى في تلك الأيام الصعبة. كان انساناً بمعنى الكلمة، وكان مثقفاً كبيراً وناقداً يعرف أسرار النصوص الإبداعية، كيف لا وهو الذي نذر عمره للتنقيب في بحور العلم والإبداع على مدى سنوات طويلة.
كان البياتي دائماً يوصي الدكتور علي عباس علوان وصيته الشهيرة حين يموت أن يدفن بجوار الشيخ محيي الدين بن عربي في دمشق والتي هي أقدم عاصمة في التاريخ، وكان له ما أراد في وصيته.
حين نعود من جلساتنا مع البياتي، كنت دائماً أسأل الدكتور علي عن سر وصية البياتي وكان يجيبني بأن الشاعر دائماً يعرف سر الأسرار. حتى جاءنا ذات يوم الشاعر الراحل جمعة الحلفي قادماً من دمشق ومبعوثاً من قبل وزارة الثقافة السورية الى البياتي، ليبلغه عرض الوزارة بالإقامة في دمشق وتخصيص السكن اللائق والراتب العالي له، وظل البياتي يناقش الدكتور علي علوان لأيام طويلة قبل أعلان موافقته، لكنه وبمجرد أن وافق، قال لي الدكتور علي عباس علوان: سيذهب البياتي الى دمشق لكي يموت هناك، فهو معتاد على وجود الاصدقاء يومياً وفعلا هذا ما حصل بعد شهور قليلة من إقامته في دمشق.
لم تشدني وتعجبني شخصية ثقافية كشخصية الدكتور علي عباس علوان، ففي داخله طفل بريء، وفي ظاهره استاذ وناقد كبير لا يضاهى. وفي واحدة من جلساتنا مع البياتي، أخرج البياتي ورقة وبدأ يقرأ قصيدة قال انه كتب اهداءها إلى صديقه الدكتور علي عباس علوان، القصيدة جميلة وثاقبة المعنى حتى في عنوانها "ليل المعنى" كتبها شاعرنا الكبير الرحل عبد الوهاب البياتي واهداها لاستاذنا الدكتور علي عباس علوان، ضمن مجموعته الشعرية الاخيرة "نصوص شرقية" التي صدرت آخر أيامه في دمشق عام 1999.
يقول البياتي: في ليل المعنى
لم يبقَ أحدْ، يتحدى الوحش الرابضَ،
في بوابة طيبة، أو يرحل مجنوناً بالعشقِ،
الى شيرازْ، غير الشعراء ْ،
فامنحني يا ابتي قبساً،
من برق الكلمات، لأواصل رحلة موتي،
في ليل المعنى.

عرض مقالات: