هدية:-
وضعَ الصديقُ العزيز الشاعرُ الكبيرُ (عدنان الصائغ) بينَ يديَّ ((الطيبتين)) – كما نعتهما- ؛ لذوقِهِ الرفيعِ- هديّتَهُ القيِّمةَ، وهي إصدارُهُ الشعريُّ الأخيرُ (ومضاتــُ... كِ) الصادر عن دارِ لندنَ للطباعة والنشر، بالاشتراكِ مع دارِ سطور عام 2024.
فلَهُ الشكرَ منْ قبلُ ومنْ بعدُ، وفائقَ التقدير؛ على هذه الهدية الثمينة، الأغلى والأغنى والأدسم.
تتألّفُ المجموعة منْ ومضاتٍ، وكتب، ومقامات، وأبوابٍ، وغيرها، مكتوبةٍ في فتراتٍ، وأماكن جغرافية، ومدن وبلدان مختلفةٍ، وسنواتٍ متباعدةٍ، وبعضها من دواوينه السابقة. يجمعُ غالبيتها الشكل (ومضات)، والعناوين التي تتكوّنُ مِنْ حروفٍ معتدلةٍ ومقلوبةٍ أحياناً تحتها، وهي الحروف التي تبدأ بها الكلمة الأولى أو لفظة داخل النصّ. كما تتنقّلُ بين مضامينَ متنوعةٍ، مابين غزليات تحملُ في أروقتها معانيَ أبعد من الذاتيات:
ل
لا يريدُ أنْ يُفارقَهما النايُ:
شفتيكِ المضمومتين عليه
أَلهذا يظلُّ يَتَأَوَّدُ
بينهما
ويَئِنُّ
25/11/2023 لندن
ك
كما لو أنَّ تغنُّجاتِ نايِها
وعدٌ
متقطِّعٌ
بقبلةٍ
10/3/2022 ستانسا Stanza – سكوتلاندا
إ
إنْ تضعي
شفتيكِ على شفتيَّ
ستسمعي
ترقرقَ الخمرةِ في جداااااولِ قصائدي ورووووحي
يقووووولُ النايُ
22/12/2023الچبايش/الأهوار Ur, Marshlands- الناصرية
وهناك ومضاتٌ ذاتُ أبعادٍ ودلالاتٍ وإشاراتٍ بعيدةٍ عنْ ظواهر ألفاظها، وما تقول في تراكيبها، ومباني تلك الألفاظ اللغوية. لكنْ إنْ عرفنا مكانَ ولادتها (كتابتها) يمكنْ لنا بتأمُّلٍ واستنطاقِ النصّ أنْ نصلَ الى المُبتغَى بالتأويل، والدلالة المختفية في ثنايا ردائها:
غ
هبطَ الغبارُ على الغبارِ
فلا غبارَ
على الغبارِ
31/1/2016 معرض الكتاب الدولي- القاهرة
هنا نستطيع أنْ نُخمِّنَ بما وراءَ رَمْي الشَّاعرِ بسهمِ ومضتهِ مِنْ نَبْلِ ذِكْرِه لـ(الغبار) وتكراره، إنَّه في مَعْرِضِ الكتاب؟! فلْنتخيَّلْ هدفَهُ، ولْندخلْ في مكامنِ التأويل، وعالم الشاعر الفسيح! الغبار على الكتبِ إشارةٌ، وترميزٌ عنْ أنّها عالقةٌ في رفوفِها، لم يفتحْها أحدٌ، بمعنى آخر عزوفُ الناس عنِ القراءة، وأكثر منْ ذلك بيانُ ما آلَ إليه الناسُ في هذا الزمنِ منَ الابتعاد عن العِلْمِ، إنّه نقدٌ، وبيانٌ لجانبٍ سلبيٍّ في عصرنا.
كما قسّم الصائغ فصولَ الديوان أيضاً على كتب:
كتاب أُريدكِ
كتاب الجمال
كتاب اللغة
....وهكذا....
كتاب المدن والأسفار
وعدَّدَه على شكل مقامات:
- مقام تأبَّط منفى أمام قبر ابن بطوطة
- مقام Ponte Dei sospiri
The Bridge of Sighs
على جسر التنهدات؛....
صورةٌ للسجين؛ يقلّبُ في الموجِ صَفْحَاتِ مَنْ سبقوهُ إلى
المِقْصَلَةْ
- مقام مدريد....
- مقام حانة مالمو
وهكذا في مقامات عديدة...
ثم تتوالى الكُتُبُ:
كتاب ثقافة التفاهة
كتاب الطُرُق
كتاب البحر...
وهكدا دواليك من الكتب والمقامات. وتحت بعضها فصولٌ، وومضاتٌ بعناوينَ مِنْ حروف، كما ذكرنا.
وبالعودة الى عنوان الديوان (ومضاتُـ... كِ):
إنَّ عنوانَ أيِّ ديوانٍ، أو قصيدةٍ، أو نصٍّ أدبيٍّ- هو عَتَبَةُ الدخول إلى مَتْنِهِ، ويكونُ نصّاً موازياً للنصٍّ الأساس في البناء. وهو تهيئة المتلقي إدراكيّاً ووعياً لِما يحتويه المتنُ قبل وُلوجِه الى داخل أروقته. والعنوان، سواءً أكانَ لفظاً، أو تركيباً، أو جملةً، أو علاماتٍ- هو إشارةُ إجلاءٍ، ودلالةُ معنىً، لِما يحتويه مضمونُ النصّ أو مضامينُ النصوصِ في المتن.
اسمُ الديوانِ (ومضاتُـ... كِ) فيه تفكيكٌ لكلمة (ومضاتُكِ)، وهو تفكيكٌ مقصودٌ منَ الشّاعر؛ فهو بفكّهِ ارتباطَ (كاف) الخِطَابِ (كِ) الموجّه لأنثى عن (ومضاتُ)، والتفريق بينهما بثلاث نقاط، وهو ترميز وعلامة على كلام محذوف من النصّ. بمعنى أنَّ هناك كلماتٍ سابقةً على كاف الخطاب الموجَّهِ لأنثى؛ بدلالة الكسرةِ تحت الكاف (كِ). وبالتأكيد هذه المُخاطَبَةُ منَ الشاعر هي الحبيبةُ/المعشوقةُ – إنْ كانتْ شخصاً أو طيفاً روحياً صوفيَّ التجلّي والوَجْدِ. ومِنْ خلال هذه العلاماتِ في الكلمةِ وترميزها السيميائي، ومتنِ الديوان، وما يتناوله الشاعرُ من معانٍ وأغراضٍ وأحداثٍ، يمكننا اكتشاف الكلام المحذوف بين (ومضاتُـ) والكاف، وهو الأغراض الواردة في النصوص داخل الديوان: التاريخية، السياسية، الدينية، الأحداث الكبرى التي مرَّ بها الوطن، وما مرَّ به الشاعر وشاهده في رحلاته الكثيرة حول العالم، وربطها ذاتياً وجَمْعياً، وفكراً، وفلسفةً، وتاريخاً، وأحداثاً عظيمةَ التأثير والنتائج (القنبلة الذرية على هيروشيما والتي سنأتي على ذكرها نموذجاً لاحقاً). أمّا العِشقِياتُ فقد جعلها في الأخير من خلال رمز كاف الخطاب، مع الإشارة العلاماتيةِ بإبرازه للكاف في العنوان، الى جانب بورتريه الغلاف: صورة فتاةٍ تحمل وردةً حمراءَ في يدها (رمز الحبّ). وهو من رسم الفنانة الإسبانية اميليا دياث باندا. وصورة الغلاف لأيِّ ديوان هي علامةٌ أخرى، وترميز مهم في دلالةِ العنوان، وما يحمله المتنُ مِنْ مضامين.
وفي متن الديوان؛ وأصرُّ على تسميته بديوان (تاريخ) الحروف والومضات والأمكنة والأزمنة والشخصيات المذكورة في ثنايا النصوص، والموضوعات (الأغراض الشعرية). إنّه تاريخٌ ذاتيٌّ، جمعيٌّ، تسجيليٌّ، فكريٌّ، روحيٌّ، لغويٌّ، صوفيٌّ، شعريُّ المَبنى والمَعنى والصُوَر، شكلاً ومضموناً؛ ألم يقولوا قديماً بأنَّ الشعرَ ديوانُ العرب! فهذا الديوانُ هو ديوانُ (عدنان الصائغ) بقضِّهِ وقضيضِهِ. يحتاجُ الى دراسات أكاديمية ونقدية متخصصة منهجيةٍ، في كلِّ بابٍ مِنْ أبوابهِ، وفيه من السيميائيات الكثير، يمكن للباحثين استكشافها واستخراجها والإشارة إليها، وهو ما نتوقع حصوله طبعاً وبكلِّ تأكيد. وهذا ما يرمي اليه الناشرُ منْ خلال العمل على أنْ يكونَ في متناول أيدي الباحثين والمتخصّصين في أنحاء العالم كافةً، وعلى الخصوص مراكز الأبحاث العلمية والتوثيقية في بريطانيا. ويكونُ محفوظاً في المكتبات الكبرى والجامعات في بريطانيا، كما ذُكرَ في نهاية الديوان.
إنَّ المضامينَ والأغراض التي دارَ حولها الديوانُ متعددةٌ: بين الغزليات عديدة الدلالات، والروحانيات الشرقية، والنَقْديات السياسية والدينية، والمرور بالأحداث الكبيرة التي مرَّت بالوطن والأمة والعالم. ومما يُمكن الإشارةُ اليهِ نموذجاً ومثالاً مِنْ موقفٍ نقديٍّ فيه حكمةُ الناظرِ المُبصِرِ هي الومضاتُ التالياتُ:
كتاب الحياة
ح
خَبرتنا
الحياةُ وخَبرناها
مثلَ لا عبَين بَرِمَين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُعيدانِ اللعبةَ نفسَها
في مقهى بلا زبائن ولا أقداح ولا نرود
14/2/2019 ليفربول
كتاب السياسة
ج
الجماهيرُ العمياءُ
قوةٌ هادرةٌ
يحرِّكُها نصٌّ
لكنْ قد يُسحقُ هذا النصُّ حينَ تمرُّ به الجماهيرُ
ديسمبر/كانون الأول 2022 - الكوفة
كتاب الربّ
خ
خرجَ
الإنسانْ
من عصرِ الحَجَرِ الَصوَّانْ
ليدخلَ – جَبْراً أو قَدَرَاً –
بكهوفِ الأديانْ
ولمّا يخرجْ منها للآنْ!
ألِأنَّ الدينَ سباتٌ غيبيٌّ. لا عقلَ. ولا سُؤلَ ولا برهانْ!
0000/2/2017 فاراناسي - Varanasi - الهند
كتاب التاريخ
ت
التاريخُ؛
عندما لا تقراُهُ بجِدٍّ،
يُعيدُنا إلى سبورتِهِ، بصفعاتٍ أشدّ
29/5/2012 جبل طارق Gibrahtar
كتاب الأرض
ل
لم تكنْ مُرَّةً هذهِ الأرضُ
لكنَّ مَنْ
مرُّوا بها
مرَّروها
3/9/2013 شارع أبي نؤاس- بغداد
ك
كيفَ
أصدِّقُ!
ربَّاً أو حزباً أو مخلوقاً؛
يأمرُ – [أو يتغاضى أو يرضى]- بالقتلِ!
7/5/2018 – فلسطين
ذكرنا سابقاً بأنّ هذا الديوانَ هو تاريخُ الشاعرِ، في ترحاله وتجواله وأسفاره في خارطة الشعر الواسعة، وعلى خارطة العالم، ليُسجّلَ لنا شعرياً ما مرَّ به منْ مضاربِ الشعر الداخلية وَحْياً وتحليقاً، ومنْ ترحاله جغرافياً باحثاً مستكشفاً فكراً وفلسفةً وروحاً وحوادثَ؛ لتكوِّنَ تجارِبَ غنيّةً، ألقتْ مرساها في وادي شعرهِ نصوصاً غنيةً بالمعرفةِ والإحساسِ ومعايشةِ المتلقي معه؛ لما اختزنه واكتنزه من روحانيات وتجليات هذه التجارب والأسفار الكثيرة والكنوز الثرية. وهنا لا بدَّ لنا أن نمرَّ على نموذج منها؛ لنغتني نحن أيضاً، ومنْ "كتاب المدن والأسفار" الذي قسّمه الى مقاماتٍ:
(8) مقام اليابان
في
هيروشيما؛
آهْ ...
سقطتْ قنبلةٌ
فتكَرْكَبتِ الأرضُ
وتهدَّلَ
وجهُ اللهْ
5/11/2015 هيروشيما Hiroshima
ديوان (ومضاتـُ... كِ) للشاعر الكبير عدنان الصائغ محيطٌ؛ في أعماقِهِ الدرُّ كامنٌ، درٌّ بألوان القوس وقزح. بإمكان الغوّاصين المحترفين الماهرين أنْ يصطادوا ما يشاؤون، ويستكشفون، ويرون؛ لتقديمها على طبقٍ برّاق من كؤوسٍ عابقاتٍ بنبيذ شهيٍّ، وثمارٍ من فاكهةِ الشعرِ الدانيةِ قطوفُها، ليقدموها للظامئين الى سَكْرةِ الشعرِ والغيابِ في عالمِه الجميل الحالم.