( لايُدفع ثمن الحب الاّ بالحب..جان ماسيون) ..
ذياب فنان تشكيلي وسارد قصصي وشاعر أعاد تأهيل الأمكنة بالذكريات، بل هو مأخوذ ومسحور بالأزقة التي عاشها ولازالت تشده رغم قوة خيوط النسيان في تعاقب السنين والدهور. أبدع ذياب في أدب السيرة الذاتية المضمخ بالشمولية مع الآخرين ومع أحداث الوطن التي مرت به، هذا الوطن الباكي والدامع على طيلة فتراته الغابرة والحديثة. السجون بالنسبة له أمكنة يحرسها القساة فتشكلت في مسامي الذكرى وعلى وجه الأخص حين يُرسل إلى الشعبة الخامسة في الكاظمية وما أدراك ماهي هذه الشعبة وأفعال البعث المجرم وما فعله بالمناضلين الذي قضوا نحبهم هناك أو بعضهم نجوا بجلودهم بعد عذابات وآلام لايمكن لها أن تخرج من شآبيب العقول بل تظل كما مسامير حفرت في القلوب والأجساد الدامية. يدخل هذا السجن المعروف بعناصره الأمنية (السايكوباثية) بتهمة الإنتماء لحزب الدعوة بينما هو الشيوعي المادي البعيد عن المثالية طيلة حياته فكيف يحصل هذا، نعم حصل هذا وياما في الحبس مظاليم على حد قول الممثل المصري (علي الشريف) حين يسجن عشر سنوات في زمن الحكم الناصري بتهمة الشيوعية وما رآه هناك لشخص أمي يصرخ في السجن ويقول (خرّبت بيتي يا ابن الكلب ياسوفييت) ظناً منه أن سوفييت هو رجل بينما هو متهم بمحاباة الاتحاد السوفيتي.
أكثر ما يُسحر الأديب ذياب هو الشقشقيات في الرغبة التي يكون فيها أما بطلها هو ذاته أو أنه سمع بها فراح ينقلها للقاريء بإسلوبه الممتع ومايفيض من قلبه النابض بحب إمرأة كانت جارته أو صادفها على ناصيةٍ في الرصيف بينما هو واقف كما جنتلمان ويطيب له النظر لإحداهن وهي تمرق بعباءتها العراقية المعهودة. علاوة على ذلك يكون طعم العاطفة أكثر ولعا وولهاً إذا كان الأديب من ضمن النضالات والفترة التي عاشها تحت حكم الإستبداد وذاق هو ماذاقه من سجون وتعذيب وخوف من الجلاوزة فهذا يضفي على السرد شوقا أكثر بألمه وأوجاعه وطراوة سرده المضمخة مع حبيبة يفتح لها صدره ويحدّثها بحشرجة الخلاص من وطن بات صعبا في المضي للعيش به بسلام ولهذا غادر ذياب الوطن ليعيش في منفاه الإسترالي حتى الآن . كل هذا نجده في رائعة ذياب آل غلام وكتابه موضوع دراستنا هذي ( القرنفل الشقي ..أوراق من سيرة الأيام ) ذلك الكتاب الضخم الذي ضم المنوعات في القصص الطويلة والقصيرة التي تحكي دعابات عاشق كانت ترفل به بين مسقط رأسه في الشامية وبين النجف وبغداد وبقية المحافظات التي عاشها ذياب نفسه وراح يتذكرها على مضض وهو في هذا العمر الشقي ، فتارة تبكيه وتارة يذكرها من باب الفخر والإعتزاز وتارة كي يقول للجلاوزة، برغم تعذيبكم لي لكنني قد عشت حياتي كما عاشها بابلو نيرودا وآراغون وسارتر وأنا هنا باقٍ رغم أنوفكم أيها السفلة .
ذياب آل غلام في كتابه (القرنفل الشقي) كتب السرد العامي بأدق تفاصيله ومفرداته العراقية البحتة، وأحيانا يتناول الميتاسرد أو الميتاقصة ويعطينا ماورائيات الحدث والقصة بإسلوب شيق لايمكنك تجاوز السطور حتى تكملها بلهفة لمعرفة نهاية القص وهدفيته ونواياه. وكان يصف ممارسات الحب ومايدور بين الحبيب والحبيبة وهم على فراش العاطفة أكثر الألفاظ الحميمية المعهودة التي تطلقها المرأة في لحظات التعري والهسيس فكان ذياب بارعا بحيث أنه لم ينس ما حصل له في تلك اللحظات التي تتشابك بها الأجساد بعد تعري الحقيقة كاملة بين الجنسين فالحب هو أرقى العلاقات الإنسانية بين طرفي معادلة الجنس، فالحبيب حين يتعرى ويلتصق جسمه كاملا بحبيبه هذا يعني أنه التلاحم الذي يمضي نحو الأبدية العاطفية في سبيل بقائنا وحفاظنا على نوعنا الجيني من الإنقراض والإستمرار في التناسل وهذه هي المعاني الأسمى في مفاهيم الجنس ومفرداته وتفصيلاته العديدة من التقبيل والتمسيد واطلاق الآه المثلى حين تصدر خارجة عن الشعور أو في حالة التماهي ثم اللاوعي الذي يغيب في لحظة إندماج الطرفين حين يكون الخنجر في غمده .
ذياب في مجمل قصصه يعطي إهتماما عاليا بالمرأة فهي التي ناضلت معه أيام العمل السري للشيوعيين، فهو هنا عكس ما أراده الفيلسوف الألماني (نيتشة) في نظرته للمرأة من أنها تهتم بشكلها وتزويقها وتهمل الجانب الفكري فوصفها من أنها عبارة عن (كائن بين الطفل ومرءٍ عاق) كما أنه يصفها من أنها لاتصلح الا للتسلية وإنجاب الجنود أي أنها للإمتاع فقط. ولذلك كان هتلر في الحرب العالمية الثانية كان يوصي النساء ويقول لهن ( عليكن أن تركنّ في البيوت لإنجاب الجنود ) واالبعض يقول أن هتلر جاء يهذه الفكرة من نيتشة فهو ذات يوم قد زار قبره .
ذياب آل غلام ، حين يكون الحبُّ نضالاً وحواساً ..جزءٌ ثانٍ
ذياب كانت له المرأة حبيبة ورفيقة العمر بمطلق الكلمة فهي التي كما قال ماركس عنها ( تهز المهد بيمينها وتهز العالم بيسراها) . ويبقى ذياب هو ذلك الإنسان الكوني الذي يصهل مع المرأة حتى ألابدية التي تصعد بشغفنا معهن وتجره من ذيول الأزل لتبقى وارفة بوفائها الأصيل كبشرٍ يمثل نصفنا البيولوجي الذي يتوجب عليه الإلتحام مع النصف الثاني كي تكتمل دورة الحياة المعهودة منذ الآزل ليرحلا صوب السرمدية وهكذا هي فلسفة الحياة عبارة عن إرادة القوة و دائرة الثعبان التي ليس لها بداية أو نهاية ، أي أن الكون بأجمله جاء بالصدفة وينتهي بالصدفة . فالمرء يموت ويحيا ملايين المرات بصور أخرى يصعب علينا إدراكها. وكل هذه المفارقات كانت في ذهنية ومدارك العاشق ذياب فما عليه الا أن يكون عبارة عن سنبلة من هوىً ووجد لايمكن أن تنكسر وسط ريح البعث ورعب جمهوريته ولانعرف كيف بقينا أحياء حتى الآن ، لربما أنه من ضروب الحظوظ والأقدار .
في أغلب فنون الحب التي قرأناها من ذياب هي أنه يريد ايصال رسالة مفادها هو اننا لا يمكن أن ننتظر من اولئك الأوباش طريقا سويا لا في الدروب العسكرية ولا المدنية ولا في الفكر والتفكير السليم فكل القهر والتعذيب علينا أن نعوّضه بالحب لاغيره وبهذا إنتصر ذياب في كل علاقة له مع حبيبة عابرة أو دائمة لازال يرفل بنشوى ذكراها وبقي كما عناقيد العنب والكروم العالية لايتذوقها الا العارفون في دروب النضال والحب معا.
كل السرد الشيق وماوراءه من مذهلات والتي رسمها ذياب تقول لنا ما قاله أنطون تشيخوف (الحياة أشبه بوردة تزهر بفرح في ارض خضراء ثم تأتي عنزة فتأكلها وبهذا ينتهي كل شيء) فعلينا أن نغتنم اللحظة الرواقية ونمضي قدما نحو الأمل والحب مع إمرأة ترتاح لها قلوبنا أوتتشارك معنا في حب الوطن الذي يتوجب علينا الدفاع عنه من شر الأشرار ومن يريدون لنا الموت في الأقبية وقتل عقولنا بالتخويف والترهيب. ويظل ذياب وسط دوامة هذه الناقلة القاتلة يعزف للروح كي يبدو كل شي جميل وناعم ومترف وقد توفق ذياب في هذا المنحى الايروتيكي الرومانتيكي إلى حدود يُحسد عليها.
لماذا كل ذاك الأصرار على الحب من قبل القاص ذياب ومادفعه من حياته ومن أيامه الكثار ومن ثم سهره ومجهوده في تأليف كتابه هذا، ليس لدينا ما نقوله سوى ما قاله جان ماسيون (لا يدفع ثمن الحب الاّ بالحب)، وكم أنتجت لنا السينما العالمية من أفلام تذهل القلوب عن هذا الحب ومايشكله من مساحات عظيمة في حياتنا. وحدها سينما بوليوود الهندية تنتج ستمئة فلم سنويا ونجد مايقارب تسعين بالمئة منها تتحدث عن ارهاصات الحب وعن آلهة الحب (كريشنا، شيفا) التي يستنجد بها العاشق كي تعينه على المضي نجاحا في الحب. ومن بين أعاصير الحب لايستطيع القاص ذياب أن ينسى وطنه وقضيته الأساسية في مقارعة النظام الطاغي بل يجعل الأمر كما لو أنه الشاعر لوركا الذي يخاطب حبيبته من السجن ويرسل لها رسائله ويقول (لا أستطيع أن أحبك دون حريتي)، كما وأن هناك أغنية فرنسية شهيرة تقول (الحب ابن الحرية).
ينطلق ذياب في كل السرد الواقعي والميتاواقعي فيحدثنا عن المعقول واللامعقول وما الذي حصل له سواء في الحب أو في إستدعائه كما قلنا أعلاه للشعبة الخامسة حين كان عسكريا وسجنه على كونه رجل متدين من حزب الدعوة بينما هو شيوعي فاين المعقول هنا ، سوى أنه يحدث في البلدان التي يغيب عنها المنطق والتي لاتعتمد العقل بل تعتمد التهمة والجاسوسية وكتابة التقارير من وكلاء الأمن . وبشكل عام لايوجد المعقول في بلداننا سوى الأعتماد على الخرافة لدى أصغر مواطن إلى أعلى هرم في السلطة، فالغالبية العظمى تتعامل بثقافة باطنية مكتسبة منذ الصغر وحسب ما تعلّموه من ابائهم وأسلافهم. ومن بين كل هذا الخراب في النفسية المجتمعية لدى الكثير من شعوبنا نجد القليل منهم يبقى يناضل من اجل الحب والتغيير ومنهم ذياب الذي يتماهى وفق المقولة الجميلة (أنّ أجمل ما ترتديه المرأة من ثياب هو ذراعا الرجل... الكاتب إيف لورون). ولذلك نرى ذياب يصر ويصر على الحب وفق ماقرأناه في سيرته الذاتية التي تشعبت بالوئام والحميمية مع أكثر من إمرأة .
سطورأخيرة بحق الفنان والقاص ذياب ..
عضو في العديد من المنظمات المدنية ومنها الإتحاد العام للادباء في العراق، عضو نقابة الفنانين العراقيين. صدرت له حتى الآن ثمانية كتب بين الشعر والفن والقص ومنها ديوان ليالي البنفسج، ديوان حياة الأيام، كتاب الاسلام والماركسية وهو عبارة عن دراسة مقارنة، وغيرها من الكتب التي طبعت على إمتداد عمره الإبداعي الذي لازال لايتعب ولايكل في سبيل خدمة الأوطان والأدب والفن بشكل عام. كما وأنه العاشق المضرّج بالنهد حسب كتابه الذي ينضح من موسوميته بالحب والتضمخ بالشعور الجميل مع لوليتاه التي ذكرها في أحد قصصه وهذه اللوليتا ( رواية للكاتب الروسي فلاديمير ناباكوف ) والتي ظلت مثلا حتى اليوم في الشعر ونتاجات الفن السابع والتي مثلت في أكثر من فيلم ومن أعظمها كان من إنتاج 1997 تمثيل ( جيرمي أيرون) والممثلة الجميلة ( دومينيكا سواين ) .
ويستمر ذياب في فصوله الماتعة عن الحب ليعطي حق المرأة والرجل في هذا المفصل الأهم في حياتنا ورغباتنا فكان ذياب يصف ببراعة ماهي الأوضاع التي يتخذها مع معشوقته وهذا لم يأتِ إعتباطاً وتبجحاً ، ففي الهند متحف كبير اسمه (السوموترا) يعرض العديد من الأوضاع الجنسية لما لها من أثر عظيم على النفسية البشرية وسعادتها التي لاتضاهى . كما وانه يعرض مدى مكانة المرأة مع الرجل في تكوين هذه الحياة التي نعيشها بعد ان كانت المرأة قد مرت بعصور ظلامية إحتقرتها وحطت من شأنها ومن بينها في عصورنا الماضية التي إمتلئت بالقصص التي يندى لها جبين التأريخ وأبسط الأمثلة على ما نقوله: ذات يوم قد رآى أحد الخلفاء امرأة أمة تستر صدرها وشعرها فقال لها: ويحك يا امرأة أتريدين ان تكوني مثل المرأة الحرة فاكشفِ عن صدرك ورأسك ايتها العبدة والا سيكون مصيرك العقاب لا غيره. فهكذا كان الفرق بين الأمة والحرة .
وفي الأخير أقول: لم يخلو الرومانتيك السردي في أغلب قصص ذياب من الشعر الغزلي أو السياسي الذي تعوّد عليه العراقيون حتى هذا اليوم فهو كالظل بالنسبة لشعب مازال يأن تحت الحرمان والجوع والتشاؤم وما من أملٍ لحياة أفضل. ويبقى ذياب مشدودا إلى الطفولة والصبا النزق مثلما قال سعدي يوسف والذي استشهد به ذياب في الصفحات الأولى من كتابه هذا (لكن الخيط الممدود مع الطائرة الورقية/ يظل الخيط المشدود إلى النخلة /حيث ارتفعت طيارتك الأولى.