لا مسافة بين روايتيّ(المنطقة الخضراء) و(جنون خلف جدران بوكا)

انني اقرأ رواية ً بجزأين متماسكين . المنطقة الخضراء سجن الاحتلال وغرفة عملياتهم.. بوكا : معتقل لعراقيين غير متجانسين عقائديا ً وعراقيين اعتقلوا بتهم باطلة  وتكفيريين ظلاميين  ذبحوا العراق وأهله، بهذا الكم المتقاطع فيما بينه والمؤتلف على تدمير البلد، يخبرنا السجين في بوكا السارد المشارك، المراسل الحربي(أعداد غفيرة من المعتقلين الاميين الذين جذبتهم الجماعات المسلحة هنا، بعد الغزو، تمزّقت شبكات خلية النحل، وتشظى الناس جماعات مسلحة وأحزاباً: السنة ينقسمون إلى عدة فصائل :القاعدة، مجلس شورى الإسلام، القوميون السنة، وأنصار الإسلام، وهذه الجماعات انقسمت على نفسها. أما الشيعة فهم منقسمون إلى قسمين رئيسين: جيش المهدي، وفيلق بدر، يحركهم هاجس الخلافات الدينية وتفسيرات الإسلام، فيشتبكون بالأيدي والأعمدة  الخشبية، يتفرج عليهم الحراس الأميركيون ويضحكون من خلافاتهم في تلك البقعة الصحراوية النائية .. / 413) من خلال هذا التقرير الشفاهي يتأكد للقارئ أن  معتقل (بوكا مشحون بالقصص والحكايات، حتى إن مزهر حار من أين يبدأ ومن أين ينتهي، وهو الذي خبر فن الكتابة / 411)

(*)

سؤال القارئ : من أي رمادٍ نهضت عنقاء هذه الرواية التي تعد من أطول روايات شاكر نوري (483) صفحة؟ ربما نجد بعض الجواب في أهداب النص التي تستقبلنا قبل الدخول إلى الفضاء الروائي: في ص9 يخبرنا مؤلف الرواية  :

أحداث هذه الرواية مستلهمة من شهادات معتقلين سابقين في معتقل بوكا خصوصاً

شهادة الصديق القاص محسن الخفاجي الذي أمضى 1099يوماً في بوكا

شهادة الصحافي محمد الشاهين  الذي أمضى هو الآخر ردحاً من الزمن في بوكا :اقتبست ُ من شهادتهما  وغيرهما وبشهادة المؤلف نوري( من راسلوني من ضحايا هذا المعتقل)..سيكون إهداء الرواية إلى محسن الخفاجي ومحمد الشاهين وكل الذين راسلوا المؤلف بهذا الخصوص..

لكن النص الروائي لا يتنفس من خلال جهامة الوثائق بل ينال هواء ً مكيفاً من خلال جماليات مخيلة الروائي شاكر نوري..طموح المؤلف يعلنه معززاً بنصيحة العظيم أوكتافيو باث( أن تكتب رواية هو أن تنشئ حقيقة ً مستقلة ً مكتفية ً بذاتها)..إذن سيكون السرد باهظا والمسؤولية ثقيلة، ليس من السهل تحويل المحسوس الملموس الوثائقي المعيش إلى نص روائي يحتاج تجنب التماهي في الذوات المعتقلة حفاظاً على فاصلة التأمل أثناء تدوير السرد..وقد تفوق  الروائي شاكر نوري على المدونات التي استلمها

(*)

(1) المراسل الصحفي تتحول أوراقه إلى فيلم من انتاج شركة أجنبية

(2) المؤلف شاكر نوري يحوّل المدونات كافة إلى سرد روائي من خلال  شخصية في الرواية  حين يخبرنا(أحاول إعادة ترتيب احاديثهم كما في ترتيب حبات المسبحة. محاولا التقاط أطراف أحاديثهم كما في ترتيب حبات المسبحة محاولا التقاط أطراف احاديثهم / 217)

 (*)

أصوات السرد

(1)صوت المراسل الحربي موجها ً للقارئ

 (2) صوت المراسل.. موجها  للأمريكان

   (3)حوارات السجناء فيما بينهم

    (4) مناجاة الصحفي مع زوجته

      (5) لدى مزهر ينوّب السارد المحايد

       (6) شفاهيات السجناء مع الكاتب مزهر

       (7) تدوير شفاهيات المراسل الحربي والكاتب إلى سردية متواشجة

       (8) شفاهيات الجنرالات العراقيين المعتقلين في بوكا

         (9)الشفاهية المقسورة (اللعنة كانوا يعرفون جميع قصصنا.. لا يرضون بها، بل يريدون أن نروي لهم قصصا ملفقة / 184)

(10) صوت  الخياط مكزون / 327- 287

 (11) صوت المتهم 715 / يبدأ من 331  وينتهي في 409

(*)

جنرالات أمريكا تتقاطع رؤيتهم مع السجناء بخصوص تسمية المعتقل (بوكا)

يخبرنا السارد المشارك : بوكا توأم غوانتا نامو واسم بوكا يخز ذاكرة السجناء بسكين تقطع شرايينهم وتسفك دماءهم. المسؤول عن المعتقلات الأميركية في العراق ديفيد كوانتوك بصلافة يعلن :(بوكا.. .هو سابع ُ عجائب الدنيا) !! / ص11 (.. فان أوكين/ وول ستريت جورنيال يعلن(الواضح أن معتقل بوكا لا يمكن مقارنته بمعسكر أوشفيز وتريبلنكا اللذان اشتهرا بإبادة  الملايين، لكن الاميركيين استخدموا الطرائق والأساليب النازية ذاتها في الاعتقال والتعذيب واقتراف الجرائم التاريخية المنظمة الرهيبة بحق الشعب العراقي في حرب غير شرعية/ 25  آيار 2005..)

 

(*)

يغرزون (بوكا) في رمال مدينة أم قصر المسالمة، يوارون من يموت تحت وطأة التعذيب في رمال أم قصر البريئة. ثم يفدون إلى أم قصر قاصدين بوكا

بصيغة (شركة أميركية لصناعة لعب أطفال لتصنع (لعبة بوكا أو كيف تقتل الأشرار الإلكترونية) / 428) أميركا لا ترتوي من تدمير حاضر العراق بل تريد تلويث مستقبله ايضا من خلال أطفال أمريكا وجعله تجارة ً رابحة ً لعولمتها. لعبة بوكا للأطفال هي السرد الكاذب الذي يشوه صورة العراق ويصور شعبه مجرمين هاربين من عدالة عولمة أمريكا. عدالة أمريكا تحتجز عراقيين صيرتهم أشراراً، يحاولون الهرب من معتقل بوكا فتلاحقهم المروحيات وترشهم بالرصاص والصواريخ. وبالطريقة هذه (كلما يقتل اللاعبون المعتقلين الاشرار يزداد رصيدهم نقاطاً وعملات ورقية إذ تعتمد على تحريك الماوس لقتل الهاربين../ 428) . بوكا: ليس اسما لمعتقل فقط ،هو شبكة اقتصادية تدر أرباحا طائلة (الشركة التي تدير بوكا، أنها تعمل في ميدان تنقيب النفط  والتجارة والشركات الامنية../ 444)

(*)

  يخبرنا السارد السجين الذي كان مراسلا حربيا (منذ زمن طويل، كان بوكا في أذهاننا مذكراً، فقد أضفى من الرجولة الكثير على أجوائه ..كان بوكا يبدو أكثر قساوة وبربرية !/ 454).. على الجهة الثانية حين يشتد التقاتل بين السجناء يصرخ مدير المعتقل روبرت مورن ويلعن العراق واليوم الذي جاء فيه إلى هذه البقعة الصحراوية التي اسمها بوكا وحين يفقد اعصابه يشتم بوكا رجل الإطفاء الذي ضحّى بنفسه من أجل اخماد حرائق برجيّ التجارة في نيويورك!! لكن ليس أثناء الدعوة الموجهة لأبنت بوكا.

 (*)

إذا كانت رواية (كلاب جلجامش) من طابقين : الأول هو الراهن العراقي والثاني هو أسطرة الراهن بالتمازج مع ملحمة جلجامش. فأن رواية (بوكا) تنقسم أفقيا إلى سجناء طائفيين وهناك من هم خارج الطوائف وداخل حيز من أسطرة صاحب الأمر أعني بذلك الجنرالات السبعة التي كان يستعملهم طاغية العراق في حروبه وهم جماعة منغلقون على أنفسهم(لم أولئك الجنرالات في حضرة صاحب الأمر سوى تلاميذ مدرسة ابتدائية، ويدونون كل ما يقوله/ 246) إذن هؤلاء أوعية فارغة يفرغ فيها الطاغية لوثة عقله..(جميع الجنرالات تحولوا مهرّجي البلاط/ 255).. لذا يحاول المراسل الحربي التقرب إلى الخياط مكزون وهو ضمن الجنرالات لكن مكزون (لا يشغله شيء سوى حياكة بدلة صاحب الأمر/ 237) مكزون ليس تائها في صحراء بل هو تائه بين سيوف ونجوم وتيجان وشارات ونياشين باحثا عن الرتبة العالية لصاحب الأمر التي حار في أمرها والخياط مازال موهوما

أن صاحب الأمر لم يهزم لحد الان!! من سوء حظ مكزون أن الطاغية أو صاحب الامر  نقله نقلة ً أسطورية ً من خياط إلى وزير!!. الجنرالات يتقوسون على جغرافية هلامية يفككون طلاسم أقفالها يطيلون التحديق في أصابع الخياط وهي تطرز آخر بدلة للطاغية.. في محبسهم ضمن مستعمرة بوكا عثروا على خريطة  عتيقة تحتوي مثابات أشبه بالطلسم  :

بحر الظلمات

قارة الزهور

جزيرة الخنازير

جهة أبي الهول

لكن الخياط مكزون عثر على (كتاب قديم قرأ في صفحته الأولى عبارة تقول (إن خياطاً سقط في زمان آخر. فتعوذ من شرّ هذا الكتاب وانصرف إلى تطريز بذلة صاحب الأمر/ 240)

ثم يطل علينا السارد الحيادي بكشوفاته عن الجنرالات: جنيد. سنون. حرار. فضيل .شنفرة. بلخي. داراني

(*)

الجامع اللفظي لدى السارد : الاحالة التكرارية التالية (وجد نفسه في المعتقل)

و كذلك : غرائبية الفضاء النصي . وهذا يعني الجنرالات بل فطنة لأنهم خلعوا ذواتهم لينتعلها صاحب الأمر.

الجنرال جنيد: يستيقظ عند الفجر غاضبا، يقصد الحمام يقف تحت رشاش الماء، وهو في مثل هذا الوقت والمكان يرى ذبابة خضراء

ملتصقة بمرآة الحمام، يمد يده اليمنى يعصرها يلطخ دمها المرآة

بتوقيت الدم المسفوك (وجد نفسه في المعتقل/ 241)

الجنرال سنون: يتوسل حلما ليضاجع امرأة هي حلم حياته. يراها في الحلم ويرى في فخذها اليسرى نبته لاصقة بالأرض يستفزه الخال/ النبتة ، يستل سكينته من جيب بذلته العسكرية ليجتث الخال

بتوقيت ذلك (وجد نفسه في المعتقل)

الجنرال حرار: حين يستيقظ يهرع نحو مرآة مدورة ليرى الطفل حرار اللامبالي. فجأة ذلك اليوم لا يرى طفولته. تباغته المرآة بوجه عجوز مكفهر (في هذه اللحظة وجد نفسه في المعتقل/ 249)

تتكثف غرائبية السرد مع الجنرال فضيل فهو يبحث معجميا عن كلمة جغرافية فتقوده خرائط الموسوعات السردية إلى المجلد السابع عشر على اسمه وتاريخ ولادته ووفاته في القرن الثاني عشر. ووجد أنه كان في حياته مملوكا وقتل في معركة ضد الفرنجة.

ربما سبب مقتله هو الدوافع المثلية (فخلبته عينا خصمه اللتان كانتا تشكيان مثل جارية شركسية. وفي لحظة الشرود: سدد له عدوه ضربة قاتلة) من جراء هذه الضربة (وجد نفسه في المعتقل/ 253)

الجنرال شنفرة : اعتقل وهو يدافع عن شرفه المدني، حين دخل بيته بقيافته العسكرية، غمرته تنهدات زوجته  التي اخترقت باب المخدع، فتوهج شنفرة واقتحم الباب وفوجئ بزوجته مع عشيقها، أخرج مسدسه ليستعيد بالرصاص شرفه، وبتوقيت هذه اللحظة(وجد نفسه في المعتقل/ 257)!! من هو عشيق زوجة شنفرة؟ هو نفس العشيق المخلد في المرويات الكبرى بنسخه ِ المتنوعة. هو القوة الباطشة ورأس السلطة الذي سيأمر شنفره بتطليق زوجته فهذا الرأس الدموي يريد حيازة الاشياء له وحده.

بلخي :  لا يتذكر سوى سقوطه من الطائرة، في الصحراء. يشتد جوعه فيأكل رفاقه واحدا واحدا بهذا التوقيت المرير( وجد نفسه في المعتقل/ 261)

 لا يختلف عن الجنرال فضيل في الغرائبية : الجنرال داراني فهو يحلم أنه مات على ظهر سفينة، غسلوّه وكفنوه، وحين هموا بقذفه في البحر.. رست السفينة على اليابسة.. ترجل الركاب رأوا قبرا رخاميا فارغا ينتظرهم فدفنوه (في هذه اللحظة وجد نفسه في القلعة/ 265) واسرفت غرائبية داراني فهو (يرى نفسه كوكبا مائيا في سموات بعيدة بين الطيور/ 266)

سرود الجنرالات السبعة من أمالي رأس السلطة العراقية آنذاك

ونهاياتهم في بوكا من سرود الأمريكي البشع.

(*)

أزيل معتقل بوكا  من صحراء مدينة أم قصر. لكن المعتقل انغرز في ذاكرة هذه الرواية التي نحتها شاكر نوري بصبر ودقة وحذف الفائض من المدونات التي استعملها ليمنحنا رواية تستحق القراءة والتساؤلات النقدية وغير النقدية..

شاكر نوري / جنون خلف جدران بوكا/  شركة المطبوعات للنشر والتوزيع/ ط1/ 2012/ بيروت

عرض مقالات: