لم يكن كبيرا في السن، عمره لا يتجاوز الخامسة والأربعين. لكنها الجينات اللعينة التي جعلتهم يتناقلون أمراض القلب جيلا بعد جيل. لا ليس ذلك فقط، بل هو ذل الحاجة والحرمان الذي يثقل على قلوبهم ولا يفارقهم يوماً.

إنه لا يخاف الموت لكنه لا يريد أن يموت الآن، فلديه مسؤوليات جسام، أطفال في المدرسة وزوجة وأم وأب عجوزين عليه أن يقيم أودهم.

فجأة أحس بألم فظيع في الصدر والذراع الأيسر. سارع ابنه الكبير الى ايقاف سيارة أجرة ونقله الى المستشفى العمومي. نظر الطبيب الشاب بقلق الى تخطيط القلب الذي أجروه وسمعه يهمس الى زميله: جلطة قلبية. ثم التفت الى الولد الذي اصفر وجهه واستطاع بالكاد أن يقف على قدميه وقال له:

- الى الطابق الأول، إنعاش القلب، بسرعة.

- أعطوه أبرة بالوريد فخف الألم وأغلق عينيه. أفاق بعد وقت لا يعرفه وأفرغ كل ما بمعدته في سلة النفايات التي بجانب سريره، نظر في وجوه من حوله فأدرك بشكل غائم أنهم ابناؤه وبناته وزوجته، ثم غاب عن الوعي مرة ثانية.

-عال عال (قال أخصائي القلب الشهير الذي سبق أن راجعه في عيادته الخاصة لألم بسيط يعتري صدره عندما يتعب) حمدا لله على سلامتك. خوفتنا عليك يا رجل. لكنك عبرت مرحلة الخطر.

ثم كتب بعض الكلمات في أوراق الحالة ومضى يتبعه اثنان من الأطباء المتدربين. بعد يومين أخذت حالته بالتحسن وإن كان يشعر بثقل يجثم على صدره. زاره الطبيب مرة أخرى وقال وهو يخاطبه ومن معه من أهله:

-كانت جلطة قوية. نجوت منها باعجوبة. لكنني بصراحة غير مطمئن على وضعك. ينبغي إجراء قسطرة سريعة.

...

كان أكثر عجزا من أن يعترض، استسلم في خجل للممرضة البدينة التي خلعت لباسه الداخلي وراحت تحدق اسفل بطنه. وضعوه في النقالة وأنزله الى صالة القسطرة.

-هل تشعر بالخوف؟

سأله الطبيب.

-لا أبدا؟

-عظيم. سنعطيك مخدرا موضعي بسيط ثم نفتح فتحة بسيطة بين الفخذ والعانة لندخل الاسلاك ونرى ما بك. إطمئن، لن تشعر بشيء. يمكنك أن تنظر الى هذه الشاشة وتراقب ما يجري.

نظر الى الشاشة فلم تظهر له سوى بعض الخطوط والنقاط غير المفهومة التي تظهر وتختفي فأشاح وجهه وراح ينظر الى السقف.

-مع الأسف (قال الطبيب) لديك شريانان مسدودان تقريبا. ستحتاج الى زرع شبكتين، أوكي؟

-افعل ما تراه مناسبا يا دكتور.

-لحظة واحدة.. آها! لقد انفتح الشريانان. انظر الى الدم الذي يجري فيهما.

كانت مئات من النقاط السود مثل النمل تجري من مكان لآخر على الشاشة، وأحس من فوره بارتياح كبير في صدره.

-والآن. حان وقت وضع الشبكتين. يتوفر لدينا نوعان من الشبكات، نوع ألماني ونوع هندي. أيهما تفضل؟

-ما الفرق؟

-الألمانية بألف دولار للواحدة والهندية بثلاثمئة.

-ضع لي أرخص شيء!

نظر اليه الطبيب في دهشة وأسى ثم قال:

-أوكي. كما تحب. الهندية أيضا جيدة على كل حال.

...

بعد نصف ساعة أخرجوه كي ينقلوه الى غرفة العناية الفائقة.

-حالته الآن ممتازة. لكنه سيحتاج الى البقاء هنا ليومين آخرين. (خاطب الطبيب زوجته المنتظرة وراء باب الصالة) لقد كتبت له على ابرة مانعة للتخثر. يجب أن يأخذها خلال ساعات. إنها متوفرة في صيدليات العاصمة لكن سعرها مرتفع قليلا، حوالي مئة دولار.

-شكرا يا دكتور. جازاك الله خيرا وحفظك من كل مكروه.

والتفتت الى ابنها:

-أسرع يا ولدي. خذ هذه الأساور الى الحاج فاضل الصائغ. سلم عليه وقل له أمي تريد بيعها. انها تساوي أكثر من سبع مئة دولار. أحمد الله على أننا لم نبعها حتى الآن!

وكان قلبها يرفرف من الفرح.

عرض مقالات: