إلى الشاعر البصري مهدي محمد علي (طيب الله ثراه) وإلى كتابه السردي (البصرة جنة البستان)

(*)

تهبنا مؤلفة الرواية منصورة عزالدين خريطة يمكن أن تنفعنا، حين يخبرنا هشام خطّاب (كل حدث مهما كان صغيراً مفتاح لفتح صندوق بعينه، وما علينا سوى الانتباه وإدراك أي صندوق يناسبه هذا المفتاح/ 144) ومفاتيح قراءتي لصناديق السرد: ترى أن الفعل الروائي في (بساتين البصرة) للروائية المصرية منصورة عزالدين  هو نتاج مزدوجات انشطارية :

  • كتب التاريخ التي تخص القرن الهجري الثاني وتحديدا : معتزلة البصرة
  • تحويل سرد المؤرخ إلى سرد المخيلة الروائية
  • التنقل بين راهن القرن الحادي والعشرين والقرن الثاني للهجرة
  • الفضاء الروائي بسعة حيز من بصرة القرن الثاني والقاهرة ومدينة المينا

(*)

تبدأ وتنتهي الرواية بالبياض وغرائبية السرد، والأصح هو أن  منصورة عزالدين ،قد شطرت القسم الأول من الفصل الأول المعنون (سماء تركوازية كما يليق بحجر كريم) إلى قسمين الأول يبدأ من ص9 إلى ص14 أما القسم الثاني فيبدأ من ص 155 حتى نهاية الرواية ص163 والسرد يكون مهلوسا من خلال منولوج احتضار الشخصية الرئيسة هشام خطّاب

(*)

النسيج السردي مضفورٌ من حلم ورؤيا، والمسافة بينهما تحتوي أصالة الإسلامي محمد بن سيرين (وأما الياسمين : فقد حُكي َ أن رجلا أتى الحسن البصري فقال: رأيتُ البارحة كأن الملائكة نزلت من السماء تلتقط الياسمين من البصرة. فاسترجع الحسن وقال ذهب علماء البصرة. وقد قيل أن الياسمين يدل على الهم والحزن لأن أول اسمه يأس/ تفسير الأحلام المنسوب للإمام محمد بن سيرين) كما تحتوي حداثة التفكيكي الفرنسي رولان بارت : (إن الحلم يمثل قصة متهدمة، وإنه ليصنع من خرائب الذاكرة/ رولان بارت.. هسهسة اللغة. ) وفي المسرود أيضا يتعايشان  الغرائبي والميداني الملتبس  ويتموضعان في القرن الثاني للهجرة من خلال بؤرة المعتزلة..

(*)

يتوالجان الحاضر والماضي ويتدفقان ويضمران وينتقلان من الكائن البشري إلى الكائن النصي، إذ لا مسافة بين تجوال الشخص في الفضاء الروائي وبين وجوده في نص سلفي مشهور، أن الفرق الوحيد هو كالفرق بين البقاء والحياة (كنتُ بشراً من دم ولحم وأعصاب، ثم وجدت رؤياي لنفسها مكانا داخل المُؤلف المنسوب لابن سيرين، فصرت كائنا ورقيا اعتدت مراقبة ذاتي المتجمدة في شكل حروف وكلمات بين دفتي الكتاب، فينتابني الفخر تارة، ويلتهمني السخط أخرى/ 10) هكذا يخبرنا هشام خطّاب وهو الشخصية الرئيسة في الرواية

(*)

لدينا أربع نصوص في النص الروائي (بساتين البصرة)

  • كتاب (تفسير الأحلام) لابن سيرين
  • مخطوطة كتاب بقلم (يزيد بن أبيه)
  • مخطوطة مالك النسّاخ
  • خطبة قصيرة لمؤسس المعتزلة واصل بن عطاء

ولدينا ثلاث جرائم

  • جريمة يزيد ابن أبيه في خنق الرجل الثري في زمن جائحة طاعون البصرة وسرقة صندوق المجوهرات
  • جريمة مالك النسّاخ في قتل يزيد، بعد أن يراه يزني بزوجته مجيبة
  • جريمة هشام خطّاب في قتل أستاذه المعرفي الكبير الذي يلقبه بالزنديق وحرق بيت الاستاذ وعائلته

(*)

 مخطوطة ابن سيرين هي الشخصية المحورية: وهي العتبة النصية/ ما قبل النص الروائي. وهي سبب التعارف والتعلق بين ميرفت وهشام خطّاب (كدت ُأنساها.. كانت أصابعها الرشيقة تقبض على(تفسير الأحلام الكبير)المنسوب للإمام محمد بن سيرين وأحد كتبي المفضلة، دون تفكير استأذنتها في إلقاء نظرة على محتوياته، توقفت مليّا عند حلم تحفظه روحي، عن ياسمين تجمعه الملائكة من بساتين البصرة  / 32) ومن خلال هذا الكتاب، ينتقل هشام خطاب من القرن الحادي والعشرين إلى بصرة المعتزلة في منتصف القرن الهجري الثاني(كانت الأحلام تخبرني بالفعل بطرف خفي من حياة شخص عاش قبل قرون /33) ويمكن اعتبار هذا التناسخ الهندي ما بين القوسين خلية موقوته تومئ إلى مصير يزيد بن أبيه /34/ 36/56/96/ 102/103/ 107/108/ 130/ 141../ 155/156/ 157/ 158/163

(*)

قوة الحلم تعيد تدوير الكائن البشري إلى كينونة نصية (كنتُ بشراً من دم ولحم وأعصاب، ثم وجدت رؤياي لنفسها مكانا داخل المؤلف المنسوب لابن سيرين فصرت كائنا ورقيّا. اعتمدت ُ مؤخرا مراقبة ذاتي المتجمدة في شكل حروف وكلمات بين دفتي الكتاب/ 10)  وكما تنقلت كائنات (جبل الزمرد) للروائية منصورة عزالدين، يحدث الشيء نفسه في روايتها(بساتين البصرة) ينتقل الكائن البشري الذي اصبح نصا من بصرة المعتزلة في القرن الثاني  إلى الراهن المصري وتحديدا في مدينة (المنيا) الابن كائن نصي/ بشري والده مفتون بفن الحكي يتعقب السيرة الهلالية ولا يكترث لزوجته وولده ..إذن إذا كان الابن من الكائنات النصية فالأب من الكائنات الشفاهية

الأب يتعقب السيرة الهلالية .الابن يتعقبه ماضيه الورقي : كينونته النصية

وينبهنا السارد هشام خطّاب (كان اسمي يزيد بن أبيه وليس هشام خطّاب)

هنا تتساءل قراءتي : أي الاسمين هو للسارد؟ ولماذا يذكر الاسمين  ولا يقف  عند أحدهما؟ وسنعرف بعد صفحات قليلة من الرواية : أنه كلاهما فهو كان يزيد بن أبيه في القرن الثاني الهجري وهو الآن هشام خطّاب الذي قرأ خطبة واصل ابن عطاء للأستاذ في ص27 وفي ص40 يثبت يزيد بن أبي هذه الخطبة في بداية كتابه.. وهذا الشخص اسوة بشخوص(جبل الزمرد)  . وهو في مدينة (المنيا) المصرية سيكون في بصرة المعتزلة في القرن الثاني للهجرة (تنبسط أمامي في أثناء صحوي في لحظات بعينها، أكون فيها في أقصى درجات تركيزي وغفلتي معا. لحظات أشحذ فيها ذهني وأسنّه ُ وأوجهه فقط نحو ماضيّ في مدينتي الحبيبة وأصرفه عن حاضري بحيث يستحيل عدما../13) ويتكرر المعنى بقولٍ ثانٍ /36

(*)

أحدهم يستقبلنا في سطر الأول من الصفحة الأولى بفعل غرائبي (بالأمس أكلت القمر) آخر يرى حلما غرائبيا (نجمان هائلان أولهما هلال وثانيهما شمس، لكنها اتخذت هيئة الهلال أيضا/ 55) أما الثالث فيخبرنا (أبصرُ عندليبا ً،فأرى فيه امرأة لطيفة لبقة، وأرى الخفاش رجلا ناسكا، وفي العصفور رجلا محتالا، يقابلني هدهد فأفكر في رجل بصير في عمله لكنه قليل الدين../57)

(*)

هشام خطاب  كأنه طفل ولدته الرذيلة  كلما يسأل من يطلق عليها (أمي) عن هوية أبويه الحقيقيين تجيبه وهي في صفوها النادر بجملتها الأثيرة :(لقيناك على باب جامع/ 12) أما من يطلق عليه أبي فهو رجل ميت لديه الضمير العائلي، ولا يحسن سوى الترحال مع منشدي السيرة الهلالية

 

(*)

هشام خطّاب متفوق دراسيا، لكن الفساد الإداري يخصيه وظيفيا، فيزداد تعلقه بالكتب (عدتُ إلى قواعدي سالما في جيش العاطلين وتنامى اهتمامي بالكتب القديمة كمقبرة لدفن إحباطي وشعوري بالخيبة واللاجدوى /19) هنا الكتب ليس رحمِا خصبا بل مقبرة . هل الاحباط والخيبة واللاجدوى : جثثا؟

(*)

صار بارعا في بيع الكتب ونهما في قراءة الكتب القيّمة، ومصابا بيقظة أحلامه / 24

(*)

الكتب : هي الشخصية المحورية في الرواية كما يخبرنا هشام عن من يصفه المعلم الزنديق ( أصبح التردد على بيته طقسا  توثقت علاقتنا بعدها أكثر، صار يعتمد عليّ في توفير ما يحتاجه ُ من وثائق ومخطوطات قديمة/28)

(*)

نص مضمر يخبرنا به ومضا السارد يزيد بن أبي (في هذا البيت تغيرت حياتي، لكن تلك قصة لا أجد في نفسي القدرة على حكيها. يتطلب الأمر قدراً يستعصي عليّ من الجلد والشجاعة /44) إذن هنا  سرٌ عصي على البوح، وسيبقى مخبوءاً  والخبء السردي الثاني نستلمه من السارد مالك النسّاخ (أما ما جرى بيني وبين يزيد فيقع في خانة الغيلة والغدر والخطايا/ 50) من جهة ثانية يقشّر واصل بن عطاء: صفة الإخلاص التي هي ميزة الخوّاص: يزيد بن أبيه (أن شيئا في الخوّاص يقلقني، شيئا ليس  بمستطاعي تحديد كنهه، لعله  إخلاصه القاطع لما يؤمن به، إخلاص في وسعه منع التدقيق والحصافة، إخلاص كفيل بأن يقود إلى الخيانة عند أي منعطف لأنه أعمى بلا عقل ولا منطق / 55) نرى أن الخبء السردي هو فعل استباقي لما سوف يحدث ضمن الفضاء الروائي .

(*)

مالك النسّاخ بعد أن يقتل صديقه يزيد بن أبيه النسّاخ، يحاول التماهي / التناسخ معه / 71

(*)

هشام يغوي الفتاة بالتماهي في شخصية بيلا شاجال / 107

(*)

ليلى هربت مع الغريب وتزوجته / 93

مجيبة هربت من مالك النسّاخ

يزيد هو هشام / 9/ 29/ 35

يزيد هو هشام / 48/ 97

هشام /88- 91

(*)

هشام خطاب يحق له التناسخ مع يزيد بن أبي، فهما منسجمان، لكن ميرفت ورطها هشام بشخصية بيلا زوجة الرسام مارك شاجال ثم راح يتهجم عليها/ 142/143 / هشام خطاب شخصية لا إنسانية يصيب الآخرين بأمراضه في قوله التالي كاشفا عن دونيته (قلت لنفسي إنني لستُ مدينا لها ولا لأي شخص آخر بتبرير ولا توضيح/ 144) وهو من جهة أخرى يكشف عن لؤمه وخسته حين يعترف(ومع هذا شعرتُ في قرارة نفسي بأنني مدين لها هي تحديدا بالعرفان فهي ولا أحد غيرها، مَن دلني على أول الخيط دون دراية منها، فمنذ التقطت من يديها نسختها من (تفسير الأحلام الكبير) المنسوب للإمام محمد بن سيرين، بدأت حياتي في التغيّر، وصرت أكثر اتصالا بالماضي /144) إذن كتاب بن سيرين هو الشخصية المحورية في الرواية وهو جسر يمتد من القرن الثاني الهجري إلى القرن الحادي والعشرين الميلادي وهو الخلية السردية الموقوتة التي تشظت بسعة 163 صفحة من الحجم المتوسط هذه الصفحات  تتنقل بين زمن معتزلة البصرة إلى 2013 ميلادي في مصر ومن كتاب بن سيرين ننتقل إلى كتابه نادر يوجد لدى المفكر الزنديق وهو بمثابة أستاذ هشام خطاب ومن خلال المخطوطة وهي بقلم  عدي النساخ يتعرف هشام على نفسه في شخصية يزيد بن أبيه/ 148

(*)

(وليم فوكنر والرواية العربية)

مع هوسي بالتقنيات الروائية الحداثية، أقول: نقرأ الروايات للإمتاع والمؤانسة، تخلصا من ضنك الحياة اليومية، أما رواية (بساتين البصرة) فهي تحتاج وقتا ومزاجا ملائما للقراءة المتأنية، قراءة تتقدم في الصفحات بخطى بطيئة. بالنسبة لي كقارئ نوعي دؤوب منذ نصف قرن، أرى أن المؤلفة أسرفت في تشابك خيوط السرد بحيث كادت تتقطع لولا تكرار قراءتي

فكيف بالقارئ ما بعد العادي؟ لعبة التقافز بين الأزمنة اشتغلها وليم فوكنر بعذوبة في رائعته الروائية (الصخب والعنف) ترجمة وتقديم المثقف الموسوعي الفلسطيني العراقي جبرا إبراهيم جبرا ، تتشكل الرواية من أربع أصوات، وتأثير فوكنر نلمسته في كتابتي عن مجموعة من الروايات العربية منها (ماكنة خياطة) رواية جمانة حداد و(الحدقي) للروائي أحمد فال ولد الدين وتشترك مع بساتين البصرة في الفضاء النصي والتقافز بين الأزمنة

  • الصبي المعتوه بنجي يحدثنا في 7 نيسان 1928
  • كونتن يكون الكلام في 2 حزيران 1910
  • جاسن :      6 نيسان 1928
  • المؤلف في 1928

الكل يتناول الحوادث ذاتها وأصعب الفصول بل وأجملها بالنسبة لي سرد الصبي المعتوه بنجي..

(*)

 في (بساتين البصرة) لمست قراءتي ترهلا سرديا  حين تتناول المؤلفة منصورة عزالدين حياة هشام خطاب وكذلك سيرة أمه. وهناك مفاجأة لم تلمح إليه المؤلفة، بل باغتتنا فيها أن الفتاة ميرفت حامل من هشام خطّاب !! كما أن شخصية هشام خطّاب تصبح مقززة  قبل نهاية الرواية واعتقد أن المؤلفة قد تعاملت معه بقسوة غير مبررة كذلك لم تقتنع قراءتي كيف تحولت المرأة المثقفة مثل ميرفت إلى الشخصية التي أرادها لها هشام ، أعني شخصية (بيلا) زوجة الرسام السوريالي شاجال؟

---------------------------------------------------------------

*منصورة عز الدين/ بساتين البصرة/ دار الشروق/ ط1/ 2021/ القاهرة

*مقداد مسعود/ الموازنة بين العوالم في (جبل الزمرد) للروائية منصورة عزالدين/ المقالة منشورة في المواقع الثقافية


عرض مقالات: