تواترت الاخبار مؤخراً عن عودة د. جميل نصيف الى بغداد، بعد قرابة عقدين من الغياب في مغتربه اللندني، ولا نعلم حقا الظروف والاسباب التي دعت هذا الاستاذ القدير لهذه العودة الميمونة التي تجشم فيها عناء السفر عبر القارات والمحيطات من اجل ان يحط بيننا عزيزاً كبيراً كما عهدته الاجيال الادبية والفنية والاكاديمية منذ عقود طويلة بصفته معلما او صاحب طريقة في فنون الجمال والترجمة واللغة ومذاهب المسرح، فضلا عن حضوره المعلن في العديد من الانشطة الاقليمية والدولية.
لعل السؤال الملح حول هذه العودة: هل هو الحنين المعلن الذي يدعو المرء المغترب الى مواجهة الاجيال والناس والمقارنة بين مجتمع الامس واليوم، أو بين جيل هدته السنون سبيل مصالحة النفس والزمن، واهدته رومانسيته عبق الماضي بأجمل الذكريات، ام انها العودة الدائمة، العودة التي لا بد منها من اجل الاقامة ثانية في هذا الوطن بشرط سبل التعايش في سلام ومحبة.
لا نملك الجواب حقاً، ولكن الامر متروك لاستاذنا الجليل جميل نصيف، وقديما قال المتنبي:
ونديمهم وبهم عرفنا فضله
وبضدها تتبين الاشياء
ولد الدكتور جميل نصيف جاسم في تكريت عام 1930 وانهى الدراستين الابتدائية والثانوية فيها. ثم تخرج في دار المعلمين العالية عام 1960 حصل على زمالة لدراسة الادب في جامعة موسكو ونال عام 1967 شهادة الدكتوراه في المذاهب الادبية. والملاحظ انه بدأ الكتابة على اثر اشتغاله بالتدريس الجامعي في الموضوعات التي تخص نظرية الادب والنقد، باعتباره من الجيل الثاني للاكاديميين العراقيين، امثال: عبد الواحد لؤلؤة، عناد غزوان، علي عباس علوان، عبد الاله احمد، جلال الخياط، أي بعد جيل اساتذته الرواد من الاكاديميين المعروفين كمهدي المخزومي ومصطفى جواد وصفاء خلوصي وابراهيم السامرائي، وآخرين.
وكان للمسرح مكان ملحوظ في اهتمامات جميل نصيف، خصوصاً في سابقته الاولى في ترجمة "نظرية المسرح الملحمي" لبريتولد بريشت ومن ضمنها "الاورغانون الصغير" لهذا الفنان الالماني المبدع، الذي احتضنه الغرب الامريكي بعد منفاه الاول المعروف في سويسرا وبلجيكا، اثر قطيعته مع حكومة الرايخ الهتلرية المريرة.
ومنذ مطلع الثمانينات اظهر د. نصيف اهتماماً بالادب المقارن – تنظيرا وتطبيقا – فنشر فيه عددا من الابحاث داخل العراق وخارجه. وما زال هذا الرجل الاكاديمي الموسوعس يتمتع بشهرة واسعة داخل العراق وبين الاوساط العربية والدولية المعنية بالدراسات المقارنة، وتلك التي تهتم بالظواهر والحركات المسرحية ضمن ملتقيات ومشاركات ومهرجانات كثيرة، فضلا عن العديد من الابحاث والدراسات والمقالات حول "نظرية الادب والدراما" او "قراءات وتأملات في المسرح الاغريقي" وكتب اخرى حول المذاهب الادبية.
وللدكتور جميل نصيف سابقة اخرى في تعريف قراء العربية بنظرية الفن الروائي في ادب ديستوفيسكي للناقد الروسي الشهير باختين، التي عرفت فيما بعد بالنظرية "البوليفنية" في تعدد الاصوات الروائية، التي كرسها ناقدنا المجتهد الاستاذ فاضل ثامر بعد سنين ضمن كشوفات تطبيقية في المنجز الروائي العراقي العام.
وبعد هذا كله، اعترف بأن صلتي بالدكتور جميل نصيف في تلك الحقبة لم تتجاوز حدود القراءة الشخصية لأغلب اصداراته المذكورة. ولكن هناك امر هام حدث عام 1995 في مطلع السنة الثانية من دراستي للمسرح ضمن الدورة المسائية الاولى في كلية الفنون الجميلة. وهو امر لا يمكن لي ان ارويه هنا او اصمت عنه الى الابد.
حدث هذا الامر من دون ابلاغ او علم مسبق لطلبة قسم المسرح يوم اطل علينا هذا الاستاذ ليدرسنا قواعد اللغة العربية، بطوله السامق وحضوره المتواضع المشع، فتبادلنا النظرات والهمهمات بصمت صاغرين. إذ كنا تحت ايقاع المفاجأة غير المحسوبة، نتوقع درسا اكاديميا في نظرية الادب او فلسفة الجمال او مدارس المسرح، كما كان يفعل هذا الاستاذ في دروسه السابقة مع افضل تلامذته في المسرح امثال صلاح القصب وعقيل مهدي وفاضل خليل وجواد الاسدي وحميد الجمالي وعبد المطلب السنيد وفيصل المقدادي وعادل كريم وغيرهم الكثير.
ولكنه بهدوئه الرائق وسحر الصمت الذي بدد هذه المفاجأة، قال: ان شهادتي الاولى في اللغة العربية كاختصاص مبكر تتيح لي المواصلة معكم لهذا العام ولا افرض على ادارة قسمكم اختصاصاتي الاخرى.. تذكروا ان اساتذتي الاوائل في اللغة العربية هم علماء اكفاء، ومنهم احببت هذه اللغة في نحوها وصرفها واملائها، وفيها تتجلى كل الوان الثقافة العالمية المعاصرة.
وهكذا مضى بنا درسه الاول طيعاً سلساً، فيه عجائب هذه اللغة كما اشتغل عليها اساتذته الكبار في الابتكار والتوليد، ومنها قواعد "الصفة والموصوف" حينما استبدلوها بقواعد "المسند والمسند اليه" وما يرافقها من اشتغالات اخرى في ذلك الزمن الذي ربما عشنا طرفا من تجلياته في ستينيات القرن المنصرم.
وكانت اكبر ضربة معلوماتية صفعنا بها د. نصيف تتعلق باستاذه الموسوعي العلامة مصطفى جواد، حينما قال:... لا تتصوروا بأنه نيزك هبط علينا من سماء اللغة العربية، انما كان الرجل شكاكا حتى في علمه حينما يعاكسه طلبته المشاغبون في الغريب او الحوشي من اللغة، وهو من اصطفاني في صدارة درسه، كي اجلب له المعاجم من المكتبة المجاورة بين حين وآخر، خصوصا "لسان العرب" لابن منظور.
واذكر انه حدثنا عن موضوعة "الاستشراق" بفاعلية الباحثين والعلماء الاجانب انطلاقا من تشكيك الباحث الامريكي الفلسطيني إدوارد سعيد، التي ربما قد مثلت صيحة غريبة في ثقافتنا العربية مع المركز المتروبولي الغربي وقتذاك، داعيا الى التخفيف من هذه الصيحة، واحترام جهود الموضوعيين منهم الذين حفروا في الثقافة العربية اكثر من حفريات الباحثين العرب ومنذ اكثر من خمسة قرون، اي قبل الهيمنة الكولنيالية. وقال كما اتذكر: كان من الاولى ان نطلق عليهم بـ المستعربين الغربيين لا المستشرقين الاجانب او بعض الالقاب العلمية الحصيفة، قبل ان ننال او نهمش كفاحهم العلمي الرصين في الكثير من منجزاته.
ولو تأملنا هذا الحديث تأملاً حقيقياً لادركنا سمو اهداف هذا الاستاذ ونبل غاياته الاخلاقية والروحية التي هي تأكيد لقيم التسامح وتقبل الآخر، واحترام حق الاختلاف ورفض مبدأ المصادرة.
كان د. جميل نصيف وطنياً يسارياً، لم يعرف عنه الانتماء لأي حزب سياسي، ولكنه لم يتنازل عن منطلقاته الماركسية ولم يساوم او يتملق، ولهذا لم يحصل على مركز وظيفي مرموق شأن الاساتذة من أقرانه أو من اتو للكرسي الاكاديمي من تلامذته. كان طيب القلب رقيقاً، مكتفيا بغزارة علمه وسيرته الفكرية وحياته المهنية ومواقفه الشخصية.
احيل إلى التقاعد من وظيفته الجامعية حين بلغ السن القانونية للتقاعد، وكانت السنوات التي تقاعد فيها سنوات حطام وحصار في العيش لكل العراقيين وهو منهم. وحدث في عام 1998 او نحوه ما يشبه الصدمة لي، حينما دلفت الى مكتب الاستاذ سامي عبد الحميد "معاون العميد للشؤون العلمية في كلية الفنون الجميلة" فاذا مكتبه يضج بالعديد من صناديق الكارتون والكثير من رزم الكتب المختلفة. قلت: ما هذا يا استاذ؟ فقال بحسرة: هذا جزء من خزانة د. جميل نصيف اهداها لمكتبة الكلية قبل سفره خارج العراق. قلت: اظن انها خاتمة مطافه في الغربة. فلم يحر الاستاذ سامي جوابا، واكتفى بتقليب اوراقه.
كان الدكتور جميل نصيف طوال تاريخه الامين مع نفسه ومع غيره، وثمة القاب كثيرة اطلقها عليه اصدقاؤه وطلبته ومريدوه، فهو "المعلم" وهو "العلامة" وهو "الجميل" وهو "المنصف". ولا شك في جدارته بكل تلك الالقاب التي حصل عليها عبر مسيرة طويلة من العلم والفاعلية الانسانية، بطول عمره المديد، حمل فيها تاريخا مليئاً بالتجارب، وغنياً بالخبرات على كاهله وفي رأسه. وفي يده كانت مفاتيح المذاهب والمناهج والمدارس الادبية والفنية والجمالية الذي لا يعرف دهاليزها وممراتها وسراديبها السرية والسحرية، ليخرج لنا منها ما لم يخرجه الآخرون الا بفضل ومنة.
مرحى د. جميل نصيف العزيز
وقديما قالت العرب: حللت اهلاً ونزلت سهلاً.