في كل ليلة ٍ 

أدخل مصحةً عقلية 

وأتيه  

 الإنسان معذب على الدوام ، بصحته أو من عدمها ، وهنا الشاعر يحدثنا عن موضوعة في غاية الأهمية سواء إن كان يدري أو لايدري فالعقل الباطن يتكلم أيضا ويشتكي . أعظم من تكلّم عن الجنون هو الفيلسوف الفرنسي المتوفى في عام 1983(ميشيل فوكو)في كتابه الموسوم ( تأريخ الجنون) . المجنون في الغرب وفي العصور الوسطى كان يعتبر ذو كرامات فالناس كانت تبجّله بإعتباره من تجلّيات المسيح مثلما لدينا في العصرالعباسي أمثال(البهلول)أو(ابراهيم العاري) المجنون الذي كان يتعرى ويلقي خطبة في الجامع فكانت تجلّه الناس وكانوايتركوه يمارس الجنس مع حمارويحترموه ويعتبروه فوق تجلّيات العقل. وبعد العصور الوسطى في أوربا ونظراً لما يفعله المجانين في الشوارع أو في البيوت من تصرفات تقلق من يعيشوا معهم فصاروا يُربطون بالسلاسل وعلى الجدران بطريقة همجية لاتطاق تكشف عن ظلم الإنسان لأخيه ، أو يضعونهم بسفينة سميت بـ ( سفينة الحمقى) ويتركوها في البحار تدور وتدور بلا رجعة حتى يهلكوا جميعهم. وبعد هذه الفترة تطوّر الطب في القرن التاسع عشر أو ماقبله بقليل فأصبح الجنون حالة مرضية ونفسية مشخصة طبياً تصيب الإنسان لعدة أسباب فبدأ الغرب بإنشاء مصحات عقلية ومستشفيات لتطبيبهم وهذه الفكرة أخذوها من مدينة ( طنجة) المغربية القريبة من أسبانيا فطنجة هي أول مدينة تنشأ مصحا عقليا لمداواة المجانين في العالم ولذلك يصيبنا الذهول إذا ما أردنا أن نتصور كيف كان العرب متطورا في الطب لكن اليوم نتحدّث بما نخجل منه في نكوصنا وتراجعنا . شعوب تحيا بالجهل ولم يكن للمثقف دوراً يُذكر مهما كتب لأنّ التقليد السائد هو الطاغي مما يجعل ذو العقل النير منجرفاً مع تلاطم الأمواج الهائلة في جهلها والتي مهما عظم جهلها ترى نفسها من انها هي اليقين . وهذه هي الكارثة التي حلّت بشعوبنا تلك التي تدعي من أنها أفضل الأمم إعتمادا على أقوال السماء التي تُقرأ بشكلٍ خاطيء فأضرّت أكثر مما نفعت بسبب التكبيل الماضي الناتج عن فكرة مسبقة في العقل الباطن لايمكن الخلاص منها الاّ بمعجزة تنفي كل أحاديث المعجزات التي لم نر منها شيئا غير ما هو مذكور في بطون الكتب المزيّفة والتي بسببها بقينا على هكذا حال نجتر الخزعبلات التي صيّرها البعض من أنها الحقائق المطلقة والتي تحصرنا في حالة  ( تسمر) :   

نجترّاللحى كل يوم 

واقفين متسمّرين 

ونظن أننا الأحسن  

 نص يتحدث عن قيم اجتماعية نصطدم بها يوميا ومنهاالأنانية والأقنعة التي تخالف الأفعال ثم الصرخة الرائعة ضد الإدعاء من أننا أفضل الأمم بينما لونزعنا كلّ شيئأّ غربياً من العرب كالسيارة ، الطائرة ، القطار، وحتى مقعد التواليت، لوجدنا حالنا لانملك غيرالصحراء ورمالها المغبرة .ولذلك لايمكن لناأن نلحق بالركب المتحضر إذا لم تكن هناك قطيعة مع كلما يمت بالماضي بصلةٍ باتت واضحة من أنها السبب في خراب شعوبنا وتشويش عقولنا ، بحيث أصبحنا أمم وقبائل تقتل بعضها بعضا إعتمادا على التأويل وقراءة النص المقدس حرفيا بما يتلائم ونوايانا الشريرة فخلق فينا أجيال وأجيال جائعة متقاتلة ( تحت الأسوار ولدنا وعلى الأسوار نموت / لم نعرف في بابل غير القتل لأجل القوت.. سعدي يوسف) . لندعم رأينا هذا مع الشاعر يحيى و( الجائع الصغير) :  

 عجبا  

عصفور ينهش زهرة 

يقتلها  

فتلك مصيبة  

 المعنى الفلسفي لهذه الثيمة هو أنّ الحياة دورة متكاملة وفيها من الكائنات الصغيرة والكبيرة والكل فيها يعيش على الآخر دون رحمة تُذكر ، المهم هو البقاء والإستمرار بشتى الطرق بالقتل أو بالتجويع لافرق . أما المعنى الآخر فهو البعد الإجتماعي والصراع الطبقي وهذا هو المهم والأهمم  لدى بني البشر . وهذا نراه يتجلّى في أروع مفاهيمه في رسالة ( كارل ماركس)لصديقه (إنجلز) والتي يخبره فيها (الإسبوع الماضي ياصديقي لم أستطع إطعام عائلتي سوى بالخبزوالبطاطا،أماالإسبوع القادم لاأعتقد من أنني قادرٌعلى إطعامهم بأي شيء، كما أنني لااستطيع الخروج للشارع لكثرة الدائنين ومن أقترضت منهم وكل مرة يطرقون بابي لتسديد الديون،حتى المعطف الذي رهنته لم أستطع إسترداده ، أماالدمامل التي في جسمي فلم أعد قادراًبسببها على النوم ولاالجلوس) . ومع ذلك كان يكتب ويستمر في الكتابة من أجل قضيته . وفي يوم وجد إنجلزوهم يكتبون معاً رأس المال بعضاًمن آثارالدم على الورق فأجابه ماركس (إنها من الدمامل التي تنفجرفتسقط على الورق ولا أملك من مال للمداواة ،وعلى أية حال يا إنجلز يراودني الأمل من انه ذات يوم تتذكر البرجوازية دماملي في لحظات إحتضارها فتنفجرعليها ، فأي ملةٍ هؤلاء الأوغاد البرجوازيون) . في عام 1850 ماتت إبنته الصغيره وهي في عمرالسنتين،وفي عام 1855 مات إبنه في عمرالخامسة،ثم ماتت زوجته جيني بالسل، حتى مات هوفي العام 1883 . هذا هو الجوع ومايفعله مع بني الإنسان في تدمير كيانه وروحه وعائلته . كل هذا بسبب القتلة الذين يتوارثون في كل زمان ومكان ، القتلة المجرمون ، أم قتلة العقائد والديانات ، أم البرجوازية التي تقتل بطرقها الخاصة عن طريق سيطرتها على الرأسمال . وكل هؤلاء يراهم الشاعريحيى من وجهة نظره الصحيحة في الآتي: 

 لافرق بين القتلة  

فكلهم ينحر الحقيقة   

**** 

خائفةٌ 

من أعداء الندى 

حين تأتي السيوفُ القاتلة ُ 

فهي كذلك  

حتى لوكانتْ  

بهيأة عصفورٍ جائعٍ  

 أروع من صوّر لنا هذا المنطق الإستقرائي أعلاه هو الفلم الكندي ( حرائقINCINDIES) .  

من إخراج الكندي المعروف دنيس فيلينوفDenis Villeneuveومن تمثيل القديرةLUBNA AZABAL (لبنى أزابيل). رشّح الفيلم لجائزة الأوسكاركماحصل على جائزةأفضل فيلم بمهرجان فانكوفرالسينمائي 2016 .هذا الفلم بيّن لنا كل عناوين الرعب وجرائم القتل على يد المسلمين والمسيح وبقية الطوائف اللبنانية في حرب الشوارع في الثمانينيات . فلم يحكي عن قصة حقيقية حصلت لصحفية ليبرالية تُسجن لمدة خمسىة عشر سنة لأنها كشفت مؤامرات القتل الهمجي . ومن سخريات القدر في هكذا شعوب جاهلة يقوم إبنها الجلاد بتعذيبها ونكاحها يوميا فتنجب له أولاده في السجن بحبكة عجيبة غريبة لايمكن أن تحصل الا في هكذا شعوب لاتخجل من دينها وديدنها في القتل . لذلك لافرق أن تقتل بإسم الدين أو بإسم الجريمة المنظمةأو تقتل حمامة وعصفور دون ذريعة  ففي كل الأحوال تلقب بالمجرم السفاح . لكنّ هناك قمامة تبقى كماهي على مر الزمن وهناك قمامة يتم تدويرها ليعاد إستخدامها كالبلاستك وقناني المشروبات. فالقتلة أغلبهم من النوع الأول قمامة تبقى فلاينفع معها التدوير ولا أي إمكانية لإعادتها من جديد . ولذلك أغلب رجالات السياسة اليوم هم قمامة مرمية لانفع في إصلاحها . ويبقى الشاعر يحيى وسط كل هذا الدمار لايملك غير طيفاً يمر عبر منامه ليقول لاشيء أقوى من الحب في نصه ( حلم) : 

 قبلة  

قبلتان  

ثلاث 

لو زرعت بخليج القلب  

لكان الحب الآن حديقة  

 يقول ( فيرلين) من أنّ القبلة زهرة برية في حديقة الملاطفات،القبلة هي بمثابة إعلان الفلم قبل المضي في ممارساته حتى النهاية. قبلة منها لأبرم إتفاقي مع الموت . هكذا هي معاني القبلة فهي مدخل الرغبة والإشتهاء الجنسي . القبلة كانت في عصور ماقبل الحداثة في العالم الغربي غير مسموح بها كما رواها لنا الشهير الفرنسي(فولتير) في روايته (كانديد) . حيث كان أحد النبلاء قد شاهد إبن أخيه الفقير يقبّل إبنته في باحة قصره فنفاه في الحال ولم يسمح له بالعودة لقصره. حتى تطور الغرب وأصبح الجنس لديهم ثقافة وعلمٌومناهج دراسية وأفلام بورنو لتحفيز الكبار على ممارسة مايرغبه المرء بلذاذةٍ عظيمةٍ . بينما بقي الجنس في الشرق عبارة عن رغبة فقط كما في الف ليلة وليلة . ثم يستكمل الشاعر مع الآيروس ليدخلنا في جنائن الحواس والإنتشاء في ( مأزق وأمنية) : 

 آه 

ياليل النشوة  

كم أصبحت بعيدا 

فلم لاتأوينا 

وتعيد من شارف الخمسين  

الى حيث  

التوت والرمان والجدل الأنيس؟ 

 الزمن ياكل كل شيء / الاالحب ياكل الزمن، النشوة هي أحد مصادر الرغبة التي لايمكننا تجاوزها فهي أساس الوجود . أما الرغبة الجنسية فهي الأعنف من بين كل رغباتنا ( شوبنهاور) . في العصرالفكتوري نسبة الى الملكة فيكتوريا الفرنسيةحيث كان العقيم والعاقر شواذاً اذامارسواالجنس لأن الجنس أنذاك لإنجاب الأطفال فقط .والذين ينجبون أطفالاووصلواالى سن اليأس ومارسواالجنس يعتبرواشواذاّ أيضا، لأن العصرالفكتوري كان يحتقرالجسد،وحتى الكلام بينالزوج والزوجةأثناءممارسةالجنس محرّم،بل الكنيسة هي التي تحدد نوع الكلام الذي يدوربين الزوجين على سبيل المثال لدينا نحن العرب أن نطلق كلمة ( بسمالله) . وعلى حد زعم القديس المتشدد (أوغسطين ) من انّ آدم وحواء كانوايمارسون الجنس الصامت كما زرع الأرض وحرثها، وحتى رعشة الجماع محرمة لدى أوغسطين ويتوجب التخلّص منها. حتى جاء الفيلسوف( ميشيل فوكو) في منتصف القرن العشرين وتكلم عن الجنسانية وأوضح الكثير في هذا المجال وأعطى الثقافة الجنسية نطاقها الأكبر . وقد إعتمد ميشيل في بحثه على مجمل الإعترافات أمام الكهنة من وراء حجاب للنساء والرجال الآثمين بالجنس ومممارسة الحب قبل الزواج ، فهناك من النساء يحكينّ للقس أثناء الإعتراف من أن عملية النكاح عالم سحري يجلب السعادة الطائرة التي لاتوصف . وكل هذه الإعترافات مسجلة لحد الآن في الكنائس القديمة وهي بما لايُحصى ولايقدّر. وهنا توقف ميشيل فوكو معترفاً من أن الجنس هو شاغل الدنيا ومافيها وقدم إطروحته لنيل الدكتوراه وبهذا تحررّ الغرب بهذا الشأن وأصبح الجنس مباحا بل حتى المثليين أخذوا حقوقهم . وياللغرابة والأسف مات ميشيل فوكو بالأيدز ، مات قبل أن يكمل الكثير في هذا المجال العاطفي المهم لدى الإنسان وبعض المخطوطات قد نشرت بعد موته من قبل أقرباءه وأحد أصدقاءه المقربين . رحل ميشيل فوكو تبعا لقوانين الطبيعة في الرحيل والإندثار والمضي نحو مقصلة الموت المنصوبة على الدوام لحز رقاب البشر دون شبعٍ وإرتواء وهذا هو مصير الإنسان في حياة عبثية يحق لنا السؤال بها عن تفاهتها لكن دون جواب شافٍ ، وهذا يؤدي الى إنبثاق القلق الذي هو أعظم شيء في الوجود على حد زعم ( علي بن أبي طالب) وهذا بدوره ( القلق) يجعل الشاعر يحيى في ( عذابات مسببة) : 

 أراها  

يوما بعد آخر 

ساعة بعد اخرى 

تصفر 

تتيبس كل أوراق 

هذه الليمونة الرائعة  

 الدنيا لاتبقي على حال ، يكبرالسن، يهزل الجسد ، يضعف البصر ،تنهارالقوة، تهتريء الرغبة ، تموت الشهوات ،وتزول المناصب، وتتغيرالسلطات . وهكذا هو المصير الرابض هناك في لحود الإنتظار للكل دون إستثناء . ولكن هل هذه الإنهزامية للبشر وضعت شريطا لاصقاً على أفواه المبدعين والفلاسفة ؟ لا.. بل على مدى الدهور هناك من يسأل ويسأل عبر مدراس عديدة من الأدب الأغريقي والسومري والبابلي والفينيقي . هناك مدراس كرّست جهودها لمحاربة الموت بطرق أخرى ومنها ألأرسطية والرواقية والأبيقورية حتى نزولا عند المتصوفة كالنفري والحلاج وصديقه الشبلي عبر مدارس عديدة للتصوف ومنهاالملامتية والقلندرية والشاذلية وغيرها. كل هذه نجد بها التساؤلات المثيرة للجدل حول الموت المارد مثلما نراها عند أبيقور الذي يقول : أنا لاأخاف الموت لأنه غير موجود وأنا حي ، وأنه غير موجود وأنا ميت فالميت لايشعر ولايحس أنه كيان عدم وهكذا في حواريّة خلاّبة للغاية نجد فيها مايوصي من أنّ المرء عليه أن لايخاف من العدم طالما جاء من العدم واليه سينتهي وينظَم .  

 كلامٌ أخيرٌ لابد منه بحق الشاعر :  

الشاعر يحيى عبد حمزة عضو الهيئة الإدارية لإتحاد ألادباء في المثنى ، حاصل على شهادة البكالوريوس ثم الماجستير ، ناشر مثابر في العديد من الصحف وأصدرت له مجموعتين شعريتين ( يوميات الوجه الآخر ) و ( مسامير في محطات الذاكرة ) التي هي كما أشرنا موضوعة بحثنا ودراستنا هذه .  

في النهاية رأيت بعض الأحكام والرسائل التي أراد إيصالها لنا الشاعر يحيى عبد هو أنّ الإنسان في تصارع من أجل البقاء والرغبة حتى وهو أقرب الى الموت من النجاة ، إنه يريد الحياة مهما دنى منه الخطر وكشّفت عن أنيابها المنايا مثلما وصفها لنا الشاعر الهندي الشهير ( رابندرانت طاغور)حيث يوضح لنا بهذا الخصوص (إنسانٌ معلّق بحبل وتحته بئرمليء بالأفاعي وفوقه أسد جائع ،والحبل يَقرض به جرذٌ أجرب ، لكنه يرى في أحد جوانب البئرخليّة لعسل النحل،ورغم كل هذاالموت الأكيد والمحدِق به ينظر بكلتا عينيه للعسل متناسياً أنه سوف يموت بعد لحظات ولامجال للخلاص من ذلك ) . هذه هي حقيقة البشر حيث يبقى ماسكاً بأكسير الحياة حتى آخرِ نظرةٍ من عينيه الى جمال الأشياء وقبيحها .ويبقى يحيى عبد حمزة شاعراهادراً مع الحب الذي ينمو عبر الشك ويهلكُ معظم الأحيان من اليقين . إنه الشاعر الذي أعطى فرصة لنفسه لكي يرى حيواتنا تتقدم عبر أزمانٍ حزينةٍ أو ضاحكة . 

عرض مقالات: