ما يبدعه الطليان بين الحين والآخر يكاد يكون الوسيلة الوحيدة لإضاءة القلب وجعله ساخنا على الدوام، والمثل الذي يسمعه المرء في كل مكان في العالم" كل الطرق تؤدي الى روما" تحول على أيدي الطليان الى معرض فني كبير، وكأنه يريد القول بان زمن روما العريقة التي اصابها وباء كورونا لا يزال معافى. وتحت شعار" كل ايطاليا ، في اصول أمة" ،افتتح رئيس الجمهورية الايطالية سيرجو مارتاريلا، معرض الفنون الكبير في صالات الاسكودرييا( منتجع الخيول) التابع للقصر الجمهوري، ويستمرحتى 25 تموز يوليو القادم. ويعدّ المعرض تحفة مكرسة لأصول إيطاليا ، وهو عمل جماعي برئاسة واشراف وزارة الكنوز الثقافية، مع عدد من المؤسسات والمتاحف الرسمية والاهلية ، يتم فيه سرد تاريخ روما التي تعتبر واحدة من ابرز عواصم العالم القديم التي تنفرد بثراء معماري تصميمي وتخطيطي، وهي من المدن التاريخية العريقة التي تعد من أقدم وأجمل عواصم العالم الاوربي بمتاحفها وشوارعها التاريخية وأسواقها الرحبة المنتشرة في كل مكان وآثارها التي لاتفارق عين زائرها.    

 ظلت روما قرون عديدة حريصة على ان لا تكون مدينة هجينة ووليدة انماط معمارية مختلفة من التراث الفني، بل ليكون لها طابعها الخاص المتميز ذي الصلة الوثيقة ببيئتها الجيولوجية والطبيعية والحضارية لم يصبها التحديث المعماري ذي المضامين المتماثلة الشكل والمضمون، بل هي امتزجت مع خلفيتها الطبيعية بانسجام كامل.

أجنحة المعرض الأولى تروي للمشاهد البدايات الاولى للتراث الروماني، فلقد كان الرومان في بدايات الالفية الاولى قبل الميلاد رعاة بسطاء يعيشون في اواسط ايطاليا من شعوب متعددة ناتجة عن انصهار ثقافي شبيه بذاك الذي عمل على تكوين الهيلينية ونجاحها، فان روما لم تتوانى عن البروز كمحطة منطقية في التاريخ الايطالي، محطة يتجذر، من خلالها، ونهائيا، مجتمع كان حتى ذاك التاريخ قليل التعلق بالارض التي يشغلها ولا يستجيب لإغراءات الترحل ويغيّر مصيره إلى الابد. وعاشت على هذه الارض واطلق عليها اسم الرومان، نسبة الى روما، مثل الاتروسكيين من ذوي الاصول الشرقية السومرية،والكيريتيون، واللاتينيون والسابينيون والايطاليون..الخ. ومع ان لفظة " الرومان" تعني في الاصل سكان مدينة روما، الا انه لما اصبحت روما عاصمة الدولة، عنت هذه اللفظة كل سكان الدولة، لان مفهوم الايطاليين لم يشمل في بداية التأسيس الا القسم الجنوبي من شبه الجزيرة.  

أكثر من 450 من الاعمال الفنية والحرفية النادرة والشائعة ، تجمعت بفضل مساهمة المؤسسات الرسمية والاهلية،و 30 متحفا إيطاليا، وعدد من الملكيات الخاصة والكالريات المعروفة عالميا . فان هذا المعرض مثل جهدًا جماعيًا للتعافي.  إنه يحكي لأول مرة المقطع العرضي لولادة إيطاليا من العديد من اللغات والثقافات ليس فقط للوحدة السياسية ولكن أيضًا للوحدة الثقافية لعصر برزت فيه اشكال متعددة من النشاط الفكري والفني والشعري والخطابة.

مع ازدياد عدد السكان الذي يعزى إلى ازدهار الانتاج الزراعي.وانتشار عدانة البرونز التي رفدت صناعة  الالات الزراعية ورفد صناعة السلاح، من سيوف وخناجر ودروع وخوذ، تجارة ناشطة متجهة في أكثر الاحيان نحو شواطىء الادرياتيك من الجانب الشرقي والبحر الابيض المتوسط من الجانب الغربي. وهكذا نشطت تجارة الحلى والزينة وخاصة الاساور والدبابيس ومشابك الثياب والزنازير.ان الندرة النسبية لمناجم النحاس والقصدير حدّت من تطور عدانة البرونز، وعلى العكس من ذلك فإن ركاز الحديد الجيد موفور في ايطاليا واستثمار الجيوب الموجودة على سطح الارض تقريبا لم يكن يشكل أي صعوبة في جمعه وصهره ،وغالبا ما كان يستخدم الحديد، كمادة كمالية، استخداما استثنائيا، في تقوية حد السلاح، او ينزل في البرونز على شكل زينة، وعلى اي حال تصبح الادوات التي عرض العديد منها في احدى صالات المعرض، اكثر فاعلية واقل كلفة، وتبين العديد من استخدامات البرونز والذهب والفضة لصنع الكماليات التزينية  بشكل خاص.

والمعرض الكبير الذي احتل معظم صالات هذا المبنى التابع لقصر الرئاسة الذي تم بنائة ما بين(  ( 1722 – 1732 والذي خصص للعروض الفنية، يتصدر صالاته الانيقة الكبيرة الاتساع ، نسخة تمثل المجسم البرونزي الشهير والذي يمثل ذئبة تحت اثدائها طفلين يرمزان الى الشقيقين( رومولو) و(ريمو) اللذان تقول الاسطورة عنهما بانهما أسسا مدينة روما على سبعة تلال يشقها نهر التيفر، وكان موقعها يبعد حوالي 26 كيلومترا عن شواطىء البحر الابيض المتوسط، وكانت المسافة من القرب بحيث تسمح باستخدام البحر ومن البعد بحيث تحمي المدينة من هجمات القراصنة.

تعج صالات المعرض الامامية بالاواني الفخارية والمصنوعات الخزفية والزجاجية رائعة الجمال بالوانها الزرقاء ونقوشها المتقنة، او تلك السيوف المزينة بالزخارف، جنبا الى جنب السجاجيد واللوحات الفنية والمصوغات الذهبية والفضية، والملابس مثل العباءات والقفاطين والسراويل والمشاليح والخوذات الحربية، حيث تكشف هذه التحف الاثرية عن فخامة ورفاهية الطبقات الحاكمة، والتي تمتاز اغلبها بالذوق الرفيع ودقة الصنعة والجمال الآخاذ، فانه يركز على حقبة زمنية تمتد مابين بدايات الالفية الاولى قبل الميلاد والتي بدأت بتاسيس مدينة روما التي يعود تاريخها الافتراضي المقدر الى سنة 753 قبل الميلاد، عندما شق "رومولو" ، في 21 نيسان/ ابريل، الثلم المقدس حول المكان الذي بنيت عليه روما. وقد نما العالم الروماني وتوسع على موازاة العالم الهيليني( الاغريقي)، حيث بدأت الحضارة الايطالية في اوائل الالف الاول قبل الميلاد التي بدأت تتكون في وقت لم تكن الهيلينية ( اليونانية) قد وجدت بعد الا في اشكالها البدائية جدا، وحتى بداية اعلان الامبراطورية الرومانية من قبل "اوغسطس"الذي ولد في 23 سبتمبر 63 ق.م - توفي في 19 أغسطس 14 م) هو رجل دولة روماني وزعيم عسكري . فان هذه الفترة تلقي الضوء الساطع على هذه الحضارة التي لعبت دورا هاما في الحياة السياسية والحضارية لعموم اوربا.

زخارف الرخام والمفروشات والتماثيل الرخامية والبرونزية التي شملت بورتريهات اعداد كبيرة من الالهة الرومانية والملوك والامراء والشعراء والحيوانات الاسطورية باحجام مختلفة، الى جانب الجواهر والمزهريات والصناعات الزجاجية،  الاواني الفخارية ،المصنوعات الخزفية ،سروج الخيل، الاواني ،البلاطات الخزفية ،التحف المعدنية والخشبية من عروش وكراسي وصناديق وابواب، تكشف عن فخامة ورفاهية الطبقات الحاكمة.مصابيح وادوات منزلية ومعادن ثمينة مسكوكات ،صناعات فلكلورية وعسكرية، تجليد الكتب بالجلود وتذهيبها، اضافة الى عدد من الخرائط والمخطوطات التي يشير بعضها الى اتساع حركة التبادل التجاري والحضاري والأسلحة وشهادات الحياة والثقافة بألوان مبهرة وصنعة متقنة.

 يوضح الرئيس المدير التنفيذي ستيفانو فيرجير ،مدير المتحف الروماني الوطني  للـ" الشرق الاوسط" ، "إن الفكرة كانت على وجه التحديد ، جعل العديد من المتاحف تعمل معًا باسم التعاون والبحث المشترك حول مجد إيطاليا القديمة.  وبعد ذلك وجدنا مساحة أنيقة ومهمة تتمثل بهذا الصرح الفني للعروض " . واضاف يقول" الأعمال التي تم ترميمها مؤخرًا ، والأعمال التي كانت موجودة في الرواسب ، والاكتشافات الحديثة والاعمال والتحف الفنية التي تمتلكها المتاحف الايطالية، كان من المؤثر المفرح رؤيتهم جميعًا معًا.  في ضوء يعزز احياء وجودها بشكل رائع ، يصبح تمثال الملاكم المستريح المحفوظ في المتحف الوطني الروماني والذي يعرض هنا، عملًا رمزيًا لأولئك الذين واجهوا هذه الأيام الصعبة من انتشار وباء كورونا وهم  وعلى استعداد للتعافي".

ويضيف المسؤول " لذلك بدأنا بالاختيار من التنوع غير العادي لعكس الثراء الثقافي لإيطاليا من قبل الرومان الاوائل للوصول إلى عملية الكتابة بالحروف اللاتينية ، والتي كانت صدامًا وتلاقيًا وتهجينًا ، لتتبع الخطوات التي أدت إلى التوحيد تحت راية روما ، من القرن الرابع  قبل الميلاد ، في عصر جوليو كلوديان.  يتناول المعرض ، في العنوان ، الصيغة الشهيرة لقسم  الامبراطورأوغسطس ، الرجل الذي أعاد توحيد إيطاليا لأول مرة في منطقة متجانسة ، ليس فقط من الناحية السياسية والإدارية ولكن أيضًا من الناحية الثقافية والدينية والعملية.  ونحن ، من خلال تراثنا ، في الجذور العميقة لهويتنا. التآزر الوثيق بيننا ،جعلت المعارض المرموقة في الدولة ووزارة الثقافة من الممكن في وقت قصير إقامة هذا المعرض ذي عمق علمي وثقافي كبير ، يتتبع الانصهار التدريجي لمختلف السكان الذي يمثل أمة واحدة باسم روما.المعرض هو اعتراف بالعديد من الجوانب الابداعية التي انتجها الفكر والثقافة الرومانية".

عرض مقالات: