تغيرات وتحولات لما بعد زمن الوباء

 تشهد مدينة البندقية ( فينسيا) افتتاح الدورة الـ17 لبينالى العمارة  العالمي، التي ستنطلق في 22  من شهر  مايو/ ايار ، وحتى 21 تشرين الثاني/ نوفمبر القادم ،بعد التأجيل الذي فرضته الجائحة، "تحركه انواع جديدة من المشاكل التي يطرحها العالم امام الهندسة المعمارية، ولكنه مستوحى ايضا من النشاط الناشىء للمعماريين الشباب، والمراجعات الجذرية التي اقترحتها مهنة المعمار لمواجهة التحديات" كما يقول القيّم الفني للدورة الجديدة المعماري اللبناني شاهين سركيس (مواليد بيروت 1954) الذي يرأس هذه الدورة وهو من بين الشخصيات العربية ذات الشهرة العالمية ، بإسهاماته اللافتة في مجال التصميم المعماري، حائز على درجة الدكتوراه في العمارة من جامعة هارفرد ،وهو عميد كلية الهندسة المعمارية والتخطيط في جامعة إم.أي تي ((M.I.T. منذ عام 2015 وباحث بارز في فن العمارة والعمران والتطور الحضري وتأثيراته المجتمعية.

 ويطرح بينالى هذا العام الذي يحتل مواقعه التقليدية في حدائق قصر العروض والبادليونا الإيطالي والارسينالى ، إضافة الى جناح كرنفالي خاص وسط المياه أطلق عليه اسم" مدينة المياه"، تيار ما بعد الحداثة كأفق أكثر رحابة  وأكثر تنوعا وأعمق اختلافا على العمارة الحالية التي تعتبر الأداة  المعبرة عن حاجة المجتمعات الحسية، على اعتبار ان العمارة هي أكثر الفنون ارتباطا بالمجتمع، تعكس حساسيته الفنية ورخاءه الاقتصادي ومستوى تقدمه التكنولوجي إضافة الى عناصر المناخ والطبوغرافيا وبنية المنظومة الاجتماعية وتشكيل ذائقتها . اذ حرص هاشم سركيس  في اختياراته على ان يكون معرضه هذا مبنيا على المساهمات التي " تتراوح ما بين الاتجاهات المعمارية التحليلية الى المفاهيمية والتجريبية والمختبرية المجربة والمنتشرة على نطاق واسع في كل انحاء العالم، لتكون انعكاس لمحطات البحث لمشاريع مختارة في مستقبل البشرية والتي ستوفر تحليلات ورؤى برعاية باحثين معماريين من جامعات عالمية مرموقة"  ليقوم المعماريون ، كما اوضح المنسق العام سركيس في مؤتمره الصحفي "بإعادة التفكير في أدواتهم لمعالجة المشكلات المعقدة التي يواجهونها، كما يقومون ايضا بتوسيع جدول المناقشة الخاص بهم ليشمل محترفين اخرين. من اجل تحمل المسؤوليات الموكلة إليهم بشكل فعّال، اذ يقوم المعماريون بتوسيع أحد اهم ادوارهم، وهو التركيبات السخية لمختلف أشكال الكفاءة والتعبير" واضاف القيّم العام" نحتاج الى عقد مكاني جديد، وذلك في سياق اتساع الانقسامات السياسية والتفاوتات الاقتصادية المتزايدة، ندعو المهندسين المعماريين الى تفعيل المساحات التي يمكننا العيش فيها معا بسخاء".

ووفقا للخطة الامنية لعملية افتتاح ابواب هذه الفعالية التي تعتبر الاكبر عالميا، وضعت تدابير معلنة: الاقنعة الالزامية، والتحكم في درجة الحرارة للجميع عند المدخل الرئيسي، والصرف الصحي اليدوي، والتباعد، نظام الدخول والخروج المنفصل في كل جناح، مسار عرض احادي الاتجاه للمعرض المركزي، شراء التذاكر حصريا عبر الانترنيت. سيجمع  مجمع البحيرة الكبيرة 63 جناح دولي، و112 مشاركا مختارا، قادمون من 46 دولة، وفقا لعدة "مقاييس"  متنوعة : كائنات متنوعة، أسر جديدة، مجتمعات ناشئة عبر الحدود لكوكب واحد حيث ستظهر ولأول مرة دولة العراق وغرينادا واوزبكستان وجمهورية اذربيجان .اما الدول العربية التي ستشارك بمنصات مستقلة ، فهي المملكة العربية السعودية، مصر ، الامارات العربية المتحدة ،ولبنان، ستكون افريقيا وامريكا اللاتينية وآسيا هي المناطق الجغرافية الاكثر تمثيلا في هذا المعرض ، وهو المكان الذي ينسقه اول معماري عربي لأكبر فعالية معمارية جامعة في العالم ، في مسعاه لخلق تكافؤ في الحضور بين الجنسين، لمرحلة ما بعد الوباء التي يشبهها  مدير البينالى لهذه الدورة ، باعتبارها مؤهلة لان تكون خلال السنوات القريبة القادمة جذرية " من قشرة الدودة الى الفراشة" تتبنى مواقف مخالفة لما عهدناه بالعمارة الحديثة التي نراها ونتابع إشكالها وتنوعاتها وخصائصها ، والتي أعلن انتهاء دورها الوظيفي وعدم ملاءمتها للقيم الاجتماعية والجمالية والتحولات  العلمية والتكنولوجية والاتصالية التي ساعدت على إنشاء مجتمع المعلومات العالمي الجديد، إضافة الى الآلية التي غزت المجتمع الإنساني بحكم انتشار الآلات والتي تعيشها المجتمعات وتحقق يوما بعد آخر تواصلا متقدما وسريعا.

المعماريون الجدد وهم يوجهون ظاهرة انتشار الوباء الجديد، بالتزامن مع اتساع رقعة ظاهرة العولمة بكل أدواتها ووسائلها الاتصالية الكونية، بطابعها الكوني الاقتصادي والسياسي والثقافي بدأو مرحلة التصدي لوسائل الاتصال الكوني المتزايد ومخاطر الانعزال الاجتماعي العميق، الذي سببه وباء الكورونا في كل انحاء العالم، إضافة الى الأخذ بالاعتبار خصائص المكان الطبوغرافية والمناخ ، وطبيعة المواد الإنشائية الجديدة، والنسب البيئية المحيطة سواء الطبيعية او تلك التي يصنعها الإنسان، والتي تنزع نحو توحيد الأذواق وتقنين القيم الجمالية خدمة لأهداف السوق الاستهلاكية التي تسعى بدورها ، الى زيادة أعداد المستهلكين بشكل مطرد، على مستوى تخطيط المدن ، وتصميم البيوت وناطحات السحاب، وحتى تنظيم المكاتب الإدارية والتجارية لمواجهة مخاطر الانعزال التي فرضتها شروط السلامة للإنسان المعاصر.

البناء الجديد قائم على الوظيفية والمكانة ويحمل رسالة مزدوجة تتمثل بالهوية الحضارية المنفتحة في البناء، إضافة الى مراعاة الفترة الزمنية التي تأسس بها البناء الذي لا يغيب عنه كما يدعي البعض اختزال المضمون والبعد الحضاري والجمالي والاختصار على البعد المادي الذي يطغي على حساب المضمون، فأطلقوا تسميات متعددة مثل" العمارة دون قيم" وعمارة" المنزل اللامنزل" و" مساحات وصناديق" و"عمارة المجانية والتجريد".. الخ، اذ ان مثل هذه المقارنة لم تعد موجودة عمليا الا في بعض التنظيرات والمقولات، اذ لا يمكن تناول موضوع العمارة الذي يضم علوما دقيقة وجوانب فنية متعددة، ويخضع لمستحثات العصر المتغير، دون النظر الى الجوانب المحيطة الأخرى، فكما يقول أحد المعماريين الايطاليين "الشاعر كان يتغنى بعيدا عن العمارة الا انه اليوم يمشي جنبا الى جنب المعماري" فالعمارة كأداة مادية ومنجز معرفي   قادرة وبكفاءة عالية بتأمين حياة مدنية أكثر رفاهية، وهي ليست منفصلة عن تاريخ الإنسان. وحتى بمعزل عما ينتجه العالم الغربي الذي لا زال يصدر لنا طرق الحياة الجديدة، وينّظّر لنا مناهج وأساليب العيش، تظل العمارة الحديثة خاضعة لعوامل اختلاف المواد واختلاف التأثيرات. انسان اليوم يعيش جملة عوامل داخلية وخارجية تساهم بشكل مشترك لتأسيس نظام عالمي يكون قادرا للتصدي للكوارث، تتمثل في تنظيم المصطلحات وصياغة الإجراءات وفق نظريات ومنهجيات تسير نحو التشابه والتوحد، تحاول تشخيص المحيط الاجتماعي وحصر المشكلات بكل انواعها ، وخاصة البيئية والوبائية، للوصول الى خطاب معماري واحد يذلل الكثير من المشكلات والمنافسات بين المعماريين والرسامين والمهندسين المهنيين وعلماء الاجتماع والجغرافيين والبنيويين ، وحتى النخب الحاكمة في قيادة الدولة الذين عادة ما تسيطر ذائقتهم في تحديد الشكل( كما هو الحال في الأساليب الفاشية والنازية والتجربة السوفيتية وما تبع ذلك من أساليب الدكتاتوريات الصغيرة) .

عمارة ما بعد الحداثة القادمة ستكون بجمالية ووحدة تنوع داخل الأشياء الموضعية وأيضا في الفكر الذي يتأمل هذه الأشياء، وستكون كما هو الحال بالعمارة الحديثة وسيط يعبر عن البلاغة الحضارية التي سيعشها الإنسان خلال السنوات القادمة. لهذا فان معظم ممثلي الصحافة العالمية الذي حضروا هذا اللقاء، أعربوا في مداخلاتهم واسئلتهم بان البينالى في دورته الجديدة يعكس شجاعة وإحساس بالمسؤولية في زمن صعب ومعقد بمخاطره التي تهدد البشرية، ويعكس وعي أكبر ليكون مرآة للعالم المعاصر بكل طموحاته وآماله.

ستشهد قاعات الندوات والمؤتمرات في المجمع الكبير عدة ندوات ولقاءات مع المهندسين المعماريين والفنانين وعلماء الاجتماع من جميع انحاء العالم الذين سيكون لديهم نقاط انطلاق مشتركة حول الموضوعات المعلنة كشعارات لهذه الفعالية الفخمة، وعلى رأس هذه الشعارات: كيف سنعيش معا؟ كيف سنلعب الرياضة معا؟

من بين المستجدات التي أعلن عنها وتتمثل بالمشاركات خارج المنافسة لعدد من الفنانين والفنانات من جميع انحاء العالم.

عرض مقالات: