حينما يطرح سؤال : هل توجد نساء فنانات في عصر النهضة الايطالية الذي  يقع بين عامي 1250 ــ 1550 أعظم فترات فن الرسم في تاريخ الفن الغربي، والذي شهد هيمنة الاسماء الذكورية على تاريخ الفن التشكيلي، مثل ليوناردو دافنشي ،ميخائيل انجلو ،رفائيل ، جورجوني، تيتسيانو، ميساجو، وديل سارتو... الخ، ولماذا ألقي بالنساء الفنانات الى هوامش التغيّيب؟ . فإن مثل هذا السؤال لا يقوض فقط حضور المرأة في تاريخ الفن، الى جانب حضورها الثقافي والفكري والابداعي ، بل إنه سؤال يطرح إشكالية بدايات مساهمة المرأة للفن، ويشير ضمنيا إلى قضية مهمة ، وهي أن المرأة، انتقصت من مساهماتها في التحولات النهضوية، في ذلك العصر الذي شهد  ترسيخ القليل جدا من حقوقها في المساواة في الفرص الوظيفية، والحقوق المادية والعلمية.

الا ان المعرض الفني الكبير لسيدات الفن التشكيلي الايطالي في الفترة الواقعة ما بين 1500ــ 1600 الذي يقام حاليا في صالات القصر الملكي العريق في قلب مدينة ميلانو حتى نهاية شهر تموز/ يوليو القادم تحت عنوان"مواهب نسائية" بدعم بلدية ميلانو ووزارة الكنوز الثقافية ومؤسسة" براكو" للثقافة والفنون ،أكد بان هناك دائما فنانات من النساء كما من الرجال. لكن من الواضح ان الفنانات غالبا ما يتم تذكرهن على انهن نساء اولا واكثر مما ينظر اليهن على انهن فنانات، ذلك ان الثقافة الاوربية في القرون الوسطى وبالذات عصر النهضة الايطالية ، كرست النظرة الى النساء عموما ربطا بجنسهن، ونسيان واقعهن كفنانات لديهن قدرات ومواهب متميزة تضاهي بكفاءاتهن المهنية ما انتجه عدد كبير من الفنانين في عصر النهضة نفسه ،

ولم تستطع المرأة إلى اليوم أن تظهر كفنانة مبدعة لها حضورها المقيد في حركة نهوض الفن التشكيلي الاوربي، الا ما ندر، فهناك من يشكك ويسأل كذلك عن إخفاق خطوات المرأة في الفن التشكيلي،. كما تتسع دائرة الأسئلة بالتشكيك ،عن لغة المرأة وأسلوبها في فن الرسم، إذ لازال الصنيع الفني للمرأة الفنانة ، يشار اليه باصابع الاتهام من قبل نقاد الفن  بان النساء يرسمن باساليب  الرجل، ويقلدنَّ موضوعات الرجال،وفنهن لايعدو ان يكون محاكاة للرسم الرجولي.
نادر ما يشهد تاريخ الفن في عصر النهضة ظهورا للصنيع الفني للمرأه، لم يكن ثمة دور متميز في عالم الفن  تؤديه النساء اللواتي واجهن خطابا إقصائيا، وضع اغلبهن في خانة الإنسان من الدرجة الثانية، حيث تعيش المرأة الفنانة وضعية دونية لا تستطيع معها أن تفكر وتنتج كما يفكر الرجل. فنحن حين نقرأ عن فنون عصر النهضة نعني توصيفا دقيقا لتاريخ الرسم والنحت والمعمار والافكار والتأليف، وحركة التنوير التي تزعمها عدد من المفكرين الانسانيين، والتي ارتبطت هي الاخرى بالذكور .

هذا الوضع، يحيل بالطبع إلى قضية لماذا جرى إبعاد النساء عن دائرة الابداع الفني، إلا باستثناءات قليلة لا نستطع تعميمها وعدها أثرا لحضور المرأة الفني في التاريخ، مجرد كموديل تقف امام الفنان ليرسم موضوعاته. وقد أعطي في النقد الغربي حيزا مهما يحتاج إلى أن نطلعَ عليه ونتفهمه يتماشى مع ظروف المرأة الفنانة التي لا تملك اماكن خاصة للرسم" المرسم" أسوة بالفنانين الذكور ، ووقتا خاصا بها، ومالا تجنيه من بيع لوحاتها، ليساعدها في تدبر شؤون حياتها لتحلق في فضاءات إبداعية، كما حلق في عالم الابداع والشهرة العديد من الفنانين الذكور.
كانت المرأة، عبارة عن صورة جميلة موضوعا، والنساء كن يُضئن كالمنارات في أعمال كل الفنانين منذ الأزل. وتجيب الاسماء الفنية النسائية التي تركت بصماتها على ما انتجته من ابداع فني مرموق مثل، ارتميسيا جنتليسكي، سفونيسبا اكويسولا، لافينيا فونتانا، اليزابيتا سيراني، فيدا كالتسيا، جوفانا كارسوني، كلاوديا بوفالو و... واخريات بلغ عددن 34 فنانة، عرضت لهن نحو 150 عمل فني زيتي بمختلف الاحجام، ليكون رد لهذا الغياب الذي ارّخ له نقاد الثقافة الاوربية التي لا ترحب بالاختلاف والمغايرة، في مسيرة الفن والفنانين.

تميزت اعمال الفنانات باستخدام الاسلوب الواقعي الذي كان هدف فناني القرن الخامس عشر، وكان مفهوم تلك الواقعية هو إيجاد طرق جديدة لاظهار العالم الخارجي، فاذا عّد هذا نصرا فان هذا النصر كان عذرا للتطور الذي مر به معنى الجمال عند كل الفنانين والفنانات، ولمعنى الحيوية واخيرا لتأملهن الذاهل، واستطاعتهن التوفيق بين الواقعية والمثالية. وقد اتسمت اعمالهن الفنية بتنوع الحجوم، واتقان الخطوط الهندسية، وتأثيرات الضوء والظل في اظهار الاشياء المحسوسة الموروثة عن التأنيقيين،  اما الاختيارات فقد انصبت على الوسائل التصويرية، وبطرق تؤدي الى الاسلوب الشخصي، ومجاراة الاساليب المتبعة في خلط العناصر الواقعية بالعناصر الرمزية، الى جانب الميل الى الفن التاريخي بحنين للحقيقة التاريخية دون اي اعتبار للنتائج، للحد تسخير قابلياتهن الفنية لارضاء عملائهن، لاظهار النساء كالاهات، والهة الاغريقية والرومانية على هيئة ملوك، الى جانب اتباع الطريقية الدينية المألوفة في الحياة،حيث  تحمل لوحاتهن الشعور الديني العميق، حرصا منهن على تحقيق رغباتهن واحلامهن لتعلق اعمالهن في مذابح الكنائس جنبا الى جنب صور الملوك والاباطرة والامراء.

اتسمت معظم اعمالهن التي توزعت على قاعات القصر الملكي باحساس مكتمل بالاساطير والحياة الفعلية في ابعادها الثلاثة وكل شيء متعلق بهذه الاعمال يتفجر حياة، انهن يحبّن الجسم الانساني ويحبن الاردية التي تغطيه ويحبّن الحركة الحرة والفعل، بل يحّبن الطبيعة والحيوانات للونها وحيويتها، ويظهر هذا في لوحات الفنانة ارتيمسيا جينتليسكي، التي كانت تضع الاشياء التي ترغب برسمها خطوطا اولى في البداية على الورق في البداية ثم تتم نقلها بعد ذلك الى لوحاتها الكبيرة.  

اغلب اللوحات المعروضة لاتقل ديناميكية ودراماتيكية، تحل الحركة الى جانب التزويقية، وتستدعي التأمل ندرك ان الهدف من هذا يتماشى مع الوسيلة، ذلك ان تأثير التزويقية المسرفة بالزهو، يرتبط ارتباطا وثيقا بالطريقة المتأنية والمنظمة في الرسم، حيث يلعب الضوء والظل دورهما خلال الابعاد الثلاثة، وحيث تتغلب الدراما في احيان كثيرة على التأمل، من خلال ابراز التعبير والتقاطيع البدنية      .                          وتميزت اعمال الفنانة كلاوديا بوفالو والفنانة لافينيا فونتانا في اغلب لوحاتهن صلة ملطفة بين الموضوعات الدينية والاسطورية وبين المنظرالطبيعي الخلفي المضاء من اللوحة، واثبات الادعاء بان مثل هذا الموضوع البسيط يمكن ان يكون اساسا للوحة تطلب كل ذلك تواضعا نحو الطبيعة، فقد حققتا باعمالهما الفنية انجازا رائعا ،لا من الناحية الفنية فقط، وانما من الناحية الاخلاقية ايضا. فقد حررتا هذا الاتجاه الرسم من قيود الاسلوب والموضوع ووضعتا الحياة الساكنة على القاعدة بدلا من التمثال. هدفهما كان على الدوام ايجاد تعادل في ذلك الجمال التقليدي. رسمتا القبح والرعب، فاستخدمت كل منهما ما استطاعت من ظلال قوية وخطوط هندسية متماسكة باكبر تفصيل يدعو للروعة ويشبه الحياة.

 في لوحات الفنانة اليزابيتا سيراني، تنتظم تصوراتها ضمن تاثير مألوف من الضوء والظل واخذت أهمية الجسم تتناقض لديها في حين ازدادت لديها أهمية التعبير، ولاح ان تعابيرها لم تكن نفسانية فحسب وانما كانت سحرية ايضا. ان من طبيعة الاحزان العظيمة ان تعمق من روحية الانسان، وهكذا كان الامر مع 34 فنانة ايطالية مبدعة ممتلئة بعواطف انسانية جياشة.

عرض مقالات: