يصف الشاعر نزار قباني في رسالته الى الاديب العراقي صلاح نيازي صاحب مجلة الاغتراب الادبي، أيام المنفى بالمتجهمة رغم أنه لم يكن منفيا بل كان دبلوماسيا يعيش وسط المجتمع المخملي ويحظى بإعجاب لا نظير له بين ربات الجمال اينما حل وباي بلد أقام منذ صدور اولى دواوينه الرقيقة مثل طفولة نهد وباقات القصائد الغزلية المثيرة التي تغنى بها الشباب والشابات في أرجاء العالم العربي طولا وعرضا.

ويتساءل (هل يمكن أن يصبح المنفى عادة كالتدخين، وتعاطى الكحول ...) ويكشف عن خوفه من الاجابة على السؤال الذي طرحه قبل عشرين عاما ولربما لم يكن يعلم ان المنفى سيستمر يقتنص الالاف من الناس يوما بعد آخر حتى إنه أصبح كالثقوب السوداء تبتلع كل من يريد الخلاص من الواقع المـر في البلدان العربية خاصة وبلدان العالم الثالث عامة.

يشير نزار قباني الى حالة لم نستوعب تحليلها لأدبيات المنفى، يكتب في رسالته (وربما كانت مجلتك الاغتراب الادبي محاولة لتكريس حزننا الجميل، ودموعنا البيضاء، وإعطاء جرحنا المؤقت صفة الديمومة).

إن الحقيقة التي وصفها بالجرح المؤقت، هي جرح نازف مستمر منذ اللحظة التي نضع فيها أولى خطواتنا على درب المنفى وندوس على أشواكه بأقدامنا الحافية، هذا الجرح استمر حتى بعد عقود على رحيل الشاعر نزار قباني الذي كان يخشى ديمومة المنفى وظن لوهلة تشع ببريق الخلاص أن المنفى سيزول بعد أوان.

ومن طريف ما تخيله في رسالته هو أكاديمية المنفى ومأسسة المنفى فيتساءل (هل يمكن أن يتحول المنفى الى اكاديمية، لها مجلس ادارتها، وكتابها وشعراؤها، وروائيوها، ومجلتها ومدارسها الادبية؟)

إن ما طرحه نزار قباني بطريقة عابرة حين نتفحصه اليوم نجد تأكيده في تقسيم الواقع السكاني في العراق على سبيل المثال الى مواطني الداخل والخارج لدرجة تتصاعد فيها الاصوات الى الغاء انتخابات الخارج لعدم جدواها ولكلفتها المالية التي تضيف اعباء اضافية على ميزانية البلد المنهوبة.

كما وصل الحال الى فرز وتقسيم الادباء الى ادباء الداخل وادباء الخارج وابعاد ادباء الخارج عن النشاطات والمؤتمرات والدعم المعنوي مثل منح الجوائز التكريمية وعدم تقديم أي دعم مادي او منح لهم لمساعدتهم على تنفيذ مشاريعهم الادبية والفنية - باستثناءات قليلة لا قيمة لها.

نشرت الرسالة في مجلة الاغتراب الادبي، العدد 48 سنة 2001

ومن الضرورة الاشارة الى الهامش الذي ذيل به الاديب صلاح نيازي الرسالة وبرر نشرها بموضوعية نظرة نزار قباني الى الاغتراب، رغم انها رسالة شخصية.

نص الرسالة:

جنيف 25 /5/1988       الأخ العزيز الاستاذ صلاح نيازي المحترم

أرجو أن تكون بخير. وأن تكون أيام المنفى أقل ّ تجّهماً ورماديةّ معك.

هل يمكن أن يصير المنفى عادةً؟ كالتدخين، وتعاطي الكحول، وإدمان الماريجوانا والهيرويين وحشيش الكيف؟ ...

سؤالٌ كبير.. أخاف من مواجهته، لأنني أخشى أن يكون الجواب (نعم).

وربما كانت مجلتك (الاغتراب الادبي) محاولة ً لتكريس حزننا الجميل، ودموعنا البيضاء، واعطاء جرحنا المؤقت صفة الديمومة..

لقد تصفّحتُ الاعداد الثلاثة التي أرسلتها إليَّ من المجلة، وقرأت الكثير من موادها، فانفجر السؤال مرةَّ أخرى في رأسي: هل يمكن أن يتحوّل المنفى الى أكاديمية.. لها مجلس ادارتها، وكُتّابُها، وشعراؤها، وروائيوها، ومجلتها، ومدارسها الأدبية؟

وبعبارة ثانية، هل نحن على أبواب أندلس أدبية، وسياسية ثانية؟؟

طبعا.. لا أحد يستطيع أن يقول للجرح: لا تنزف ...

وللذاكرة: لا تصرخي.. ولكنني أخشى، يا صلاح، أن نتصالح مع جدران منفانا.. ونصبح أعضاء دائمين في (نادي المنفيين)

انني لا أنكر ان نتاجي الاخير، كان مصبوغاً بألوان المنفى، ولكنني أحاول ألا أتأقلم ...أو أتعـوّد على هذا اللون الرمادي الطارئ ...كما لا أريد أن أبقى (مستأجراً) في بيت الأحزان..

انني أقدّر تقديراً كبيراً، أهمّـية ما فعلته، في جمع ما تناثَـرَ من أصابعنا.. ودفاترنا ... وأكبادنا.. وأعتبره أرشيفاً ضرورياً وهاماً لتسجيل هذه المرحلة ...

ولكنني أظلّ حالماً (بمجلتك الثانية) التي سيحررها الاندلسيون.. وهم جالسون تحت شمس الاندلس.

والله يرعاك، أخي العزيز.

توقيع

نزار قباني

عرض مقالات: