اذا ما سلمنا ان الثقافة تعني انتاج المعرفة، فاننا عندئذ نكون امام واقع مرّ ومرير لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال.

ونعني بهذا الحال ما نحن عليه من تردٍ فكري وثقافي ومعرفي واجتماعي.. يلازمه ويواكبه تدنٍ كلي في قاع المدن على المستويات المعيشية والصحية والأمنية.

امام هذه الصور القاتمة التي لا يمكن لمرء تجاوزها او التغافل عنها، نواجه سؤالاً واقعياً ملحاً يقول: ما الذي يمكن للثقافة والمثقفين فعله إزاء ما يجري؟

ربما تكون وزارة الثقافة العراقية الراهنة قد وضعت هذا السؤال امامها وهي بصدد العودة الى “مؤتمر المثقفين العراقيين” الذي أقيم في بغداد عام 2005 وما ان تغير السيد الوزير مفيد الجزائري/ الوزير الأول بعد 2003 حتى اسدل الستار على هذا المؤتمر وقراراته الفاعلة والمهمة.

وتوالى لقيادة الوزارة عدد من السادة الوزراء الذين لم يكن لهم حضور يذكر في بناء ثقافة وطنية حقيقية، وانما تم التعامل مع هذه الوزارة بوصفها (حصة سياسية) تملأ بشخصيات سياسية.. وهذا ما كان فعلاً.

حتى اذا جاء السيد الوزير الجديد د. حسن ناظم من الحرم الجامعي، ومن بيئة جامعية مرموقة، حاملا معه منجزاته في التأليف والترجمة والتوجه الحداثوي؛ استبشرنا خيراً، وانتظرنا التغيير والإصلاح في ادنى مستوياته الا ان هذا الإصلاح ما زال يواجه الكثير من العقبات منها ان يكون لمديريات الوزارة ونشاطاتها حضور مغاير لما ألفناه سابقاً.

فدور الثقافة في بغداد والمحافظات، مقاهٍ ومكان للبطالة والثرثرة، والنشر لا يخرج عن كتب تماثل كتاب “المغامرات الأولى في بلاد فارس وساسان وبابل” الصادر عن دار المأمون مؤخراً.

والمعارض التشكيلية محصورة في قاعة داخل مبنى الوزارة بلا مراجعة نقدية، والمسرح يضئ ليومين ثم تنطفئ اضواؤه.. فيما تفخر دائرة السينما والمسرح بإعادة تأهيل مسرح الرشيد او بناء مسرح صغير في الدائرة ذاتها.. بينما الإنتاج السينمائي والمسرحي غائبان!

ولا علينا من: داء الأزياء، دائرة العلاقات، دار الشؤون الثقافية، فرقة الفنون الشعبية، دائرة الفنون الموسيقية، دار ثقافة الأطفال. لا علينا من المتحف العراقي الذي نهب بعد 2003، ولا علينا من المعالم الحضارية والآثارية التي دمرت..

لا علينا من (مشروع بغداد عاصمة الثقافة) الذي تبددت أمواله من دون ان يحقق جدواه.. سنطوي صفحات لا تنطوي.. ونسكت عن مجلات مضيئة تطل على قرائها شهرياً ليصبح بعضها منسياً (دجلة، السينما والمسرح، القيثارة، الرواق) وتتحول المجلات الأخرى الى مجلات فصلية ونصف سنوية!

لا علينا من كل ما جرى من غياب للثقافة والمثقفين، ولنبدأ بصفحة جديدة اقدم عليها الوزير الاكاديمي وهو يستعيد العمل بـ “مؤتمر المثقفين العراقيين” الذي كان وليد ظروف بالغة السخونة: امنياً ومعرفياً.. والحياة محفوفة بالكثير من المخاطر والعقبات.

نعم.. العودة الى وقائع المؤتمر، مؤشر إيجابي سليم بلا شك، والنظر في الإيجابيات نظرة موضوعية وعملية.. فهم جميل ومبارك، لكن.. لكن الأمور تفاقمت والسلبيات المحيطة بأي مسار صحيح لا تخلو من الصعوبات.

الآن، الامية تضرب عميقاً في حياة المجتمع، امية على مستوى انعدام القراءة والكتابة، وامية تعتمد (ثقافة التخلف) و(ثقافة الجهل والتجهيل) معاً. وما يتعلمه الطلبة على ضآلة هذا التعليم في المدارس والجامعات سرعان ما يتبدد بسبب البطالة السائدة لجميع الخريجين!

امام هذه الحالات مجتمعة، ما الذي بإمكان وزارة الثقافة والآثار والسياحة فعله.. لوحدها؟

هل يمكن لها ان تعمل بعيدا عن: وزارة التربية، ووزارة التعليم العالي؟ المؤسف.. ان كل وزارة لها في الامر شأن ولا شأن لأحد بأحد.. مع ان الضرورة تقتضي توحيد الرؤى في عمل مشترك يسعى الى نشر الوعي في المجتمع.. ولا وجود لخطاب مشترك يحقق هذا الهدف الأهم والذي تعمل على وفقه الوزارات الثلاث!

نعم.. بنا حاجة ماسة الى مؤتمر للمثقفين العراقيين تحديداً، فالشأن يعنيهم والامر يخصهم وهم ادرى بشعاب ما يجري من تجهيل مدرسي واكاديمي على حد سواء.

وأمر الثقافة لا يخرج عن جدوى رسائل واطاريح هشة او مسروقة وقد نجد مبانٍ انيقة ولكن في داخلها كسل فظيع عن تطوير خطوة بالاتجاه الصحيح. العيون كلها.. على الرواتب، وهذا حق يفترض ان يكون مكفولاً، شرط ان يقابله عطاء مسؤول.. غير ان الجهل واخلاقية مجتمع تجعل هذه العيون تفكر ذاتياً وتنسى الامر موضوعياً.

هذه جميعاً.. شؤون ثقافية، لا ينظر اليها حتى من ثقب الباب، لذلك نرى ان أي جدوى لأي كلام وفي أي مؤتمر ستكون معدومة الجدوى، خالية من المعنى.. من بناء الانسان بوصفه اصل المعرفة والابداع والعطاء.

من هنا نرى.. ان إعادة النظر في عقد “مؤتمر المثقفين العراقيين” لا بد ان يضع كل ما اسلفنا الإشارة اليه بإيجاد موضع الرعاية والاهتمام والانتباه.. ذلك اننا لانبحث عن مؤتمر مظهري، بقدر ما نبحث عن مؤتمر فاعل يحقق الجدوى الحقيقية التي على وفقها تمت إعادة النظر في استعادة مجده الذي عمد الكثيرون الى إطفاء ضوئه الفاعل.. ذلك ان بناء الانسان امضى واكثر أهمية بكثير من بناء حياة مدججة بالعنف الذي يجهل دعاته طبيعته ونتائجه مثلما يجهلون أحيانا كتابة أسمائهم!

الامل ان يكون هذا المؤتمر.. راسخاً وعميقاً في عطائه وثمار منجزاته.. نترقب.

عرض مقالات: