في صالات قصر العروض التاريخي العريق في قلب العاصمة الايطالية روما، والتي اقيمت بداخلها سرادق عددها 16 مفتوحة على بعضها لسير الزوار الى الامام فقط ، حيث منحت ادارة المعرض ساعتين من الوقت لكل زائر، تجنبا لاحتكاك الزائرين المحددة اعدادهم برفقة المرشدين. معرض الاربع سنوات( كوادرينالى) للفنون التشكيلية،الذي تأسس سنة 1931 . يستمر حتى 17 يناير كانون الثاني القادم، ضم اكثر من 300 عملا فنيا لـ 43 فنانا وفنانة من عموم ايطاليا، جمع اساليب فنية وصياغات تشكيلية عدة، رسم ، نحت، فيديو، كولاج، غرافيك، وكل ما يقدمه عالم الكومبيوتر من ابتكارات محررة من أية قيود تتزامن والتحولات الجديدة في الاساليب الفنية، جمعها هؤلاء الفنانين باعمالهم الفنية بطرق تثير المتلقي وتحيله من مجال الايهام المنظوري الى المجال الواقعي والفعلي وبالعكس، وقد تركزت العروض على عامل الزمن في حياة الانسان.

الحركة الفنية التشكيلية التي يطلق عليها هنا ، ما بعد الحداثة في هذا البلد الذي يعتبر من أعرق بلدان الغرب بفنونه التشكيلية، أصبحت هاجس العديد من الفنانين الايطاليين، اعادت تكريس واقع المتغيرات الجديدة في عالمنا المعاصر وعكستها في بنية هذه الاعمال الفنية، وهي تضم في صفوفها  أعدادا من الفنانين، تتزايد يوما بعد آخر، اذ يعتقد اصحابها بان مساعيهم الفنية، هي إمتداد لما بعد الحداثة، ويطمحون لتحرر أعمالهم الفنية من كل انواع الاتجاهات والاساليب التقلدية المتعاقبة المتعارف عليها في الصنعة الفنية.

الوسائل التقنية الحديثة التي كثر من أستخدامها فنانو الحداثة من المدرسة المفاهيمية، وما حملته من مدارس واساليب عديدة تمثلت في حركة فلوكس، الفن الاعتدالي، فنون الارض، فنون الجسد، التصوير الفوتوغرافي ... الخ، توضح أهدافهم، بإتباع كل الاساليب التي من شأنها تخطي اللوحة التقليدية وحاملها، باستخدام الميكرفيلم والفيديو والكومبيوتر وبرامج الفوتوشوب، واستخدامات اليستراتور، والسكينر، وكل ما تتيحه التقنية الحديثة ومغرياتها،  إضافة الى  آخر ما توصلت اليه عبقريات البرمجة الرقمية، لتستدرج الفنان الى مساراتها ونتائجها شبه الجاهزة . ان هذا الجمع الكبير من استخدام الوسائل التقنية وأكثرها تعقيدا مثلت لحظات التقاطع الحاسمة ما بين الحداثة الفنية وفن ما بعد الحداثة، اذ  لايوجد إنتماء محدد  الى إتجاه أو تيار أو اسلوب معين يمكن تحديده، بل ان كل فنان وكل عمل منجز له يحمل إنتماء خاص  قادر أن يترك تصورا عن نفسه بإعتباره نوعا متمردا جديدا من الخلق يستخرج رؤاه من واقع آخر يكمن خلف المظاهر وخلف المادة، يعتبر كل انسان هو فنان، وان كل ما ينتج عنه او يخرج منه هو عمل فني.

المعرض يمثل الاتجاهات الطليعية لنمط فني كان قد مهد له الفنان الفرنسي "مارسيل دي شامب" منذ بداية القرن الماضي ،والحركة الدادائية الجديدة في اوربا واميركا ، وكذلك ما قدمه كل من الفنانين "ايف كلين" الفرنسي و"بييرو مانزوني" الايطالي في الخمسينات من القرن الماضي حيث ساهما في نشر هذه الحركة الفنية واعتبر نشاطهما بمثابة صلة الوصل ما بين الدادائية في مختلف مراحلها ، وهي في جميع فعالياتها تمثل ارادة لدمج الفن بالحياة، الامر الذي عكس نفسه بقوة في توجيه جزءا كبيرا من النشاط الفني المعاصر الذي نعيشه هذه الايام، فهم حاربوا التقاليد الفنية، وتحركوا في كل نشاطاتهم الفنية والفكرية والنقدية على التحرر من القيود الاجتماعية والثقافية، من أجل الانطلاق نحو منطلقات جديدة ومغايرة، تتخلص لامن الفن بحد ذاته بل من كل اشكاله وطرق استهلاكه  و تسويقه.

فور دخولنا الى صالات العروض المتعددة شعرنا بنوع من الغربة والتساؤل: هل هم فنانون ام مخترعين، فالذي نراه ليس معروضا تشكيليا، بل يبدو للوهلة الاولى لعبة تكنولوجية تبني نفسها على عوالم افتراضية او واقعية، حصى واسلاك وبقايا سيارات عاطبة محترقة ، وبقايا معدات وخيام وجمال مصنوعة من اسلاك الحديد والقصدير، كراسي والواح خشبية ومقاعد سيارات وكرات رصفت بدقة هندسية والواح زجاجية وجدار حجري من الاسمنت، علب من الكارتون وانابيب معدنية واجساد عارية منفوخة، وصور فوتغرافية تحمل رؤية جديدة لواقع اجتماعي تم تحويله وصياغته حسب إرادة ورغبة الفنان. كل شيء هنا يتم فيه اختصار المسافات لاقصى درجة بين الفن والحياة، وكل شيء يدعو الى التحرر من كل الوسائل التقليدية التي اعتادت عليه عيون المشاهدين في السابق، لتصبح رؤيتها مباشرة نحو اكتشاف انفسنا داخل هذا العالم، وهو متحرر من الاشكال التقليدية للفن، يقدم فيه الفنان ادراكا جديدا لهذا العالم ومفهوما جديدا لمعنى الفن، فالفكرة تصبح اداة الفنان لصنع العمل الفني، ومثل هذا العمل  لايجسد طرحا نظريا فقط ، بل يظل في إطار الحدس، يتضمن كل العمليات الفكرية دون أن يكون له أي هدف، كما انه متحرر من المهارة الحرفية لدى الفنان. هذا النوع من الفن يحمل رسالة غامضة من الفنان الى جمهور المتلقين، يشير فيها الى التبدل الكلي في العلاقات التقليدية في العمل الفني بين الفكرة والتعبير، اذ ان الفكرة هي الاساس الفعلي بدلا من العمل الفني نفسه والذي يصبح بمثابة أداة لايصال الفكرة ذاتها. انها مناخات صنعتها مخيلات مأخوذة بالخديعة وهو الامر الذي يضع المشاهد في قلب الدهشة معتبرا المكان الذي هو فيه مقلبا جماليا من آخر لايسعه الا أن يسلك طريق حدس الاشياء كما يفعل الاعمى من اجل الخروج من عتمته وسط ركام اعمال لاتكشف عن جماليتها للوهلة الاولى، لانها تحمل معان كامنة لاتبتعد عن التأويل الذي تتيحه للمشاهد، فهي تحمل دعوة مفتوحة لرؤية الشيء الحقيقي للفكرة وتمثيلها من خلال استخدام ادوات ووسائل متواجدة في الحياة اليومية.

الفن الان اصبح بعرف هؤلاء وسيلة استعلام فعالة، اذ سرعان ما يزول العمل الفني بينما تبقى ذكرى الفكرة التي طرحها راسخة، فالعمل الفني لم يعد مرتبطا او مندمجا باي أثر تزييني أو نظام بناء متكامل، ذلك ان مثل هذا الفن لايبحث عن الخلود الذي كانت تبحث عنه اللوحة الفنية، فخلوده يتمثل بتغيير إطار اللوحة الى إطار الوجود اليومي والذي يتيح للانسان القيام بتجارب حقيقية مباشرة مع محيطة وبيئته.

تظهر الاعمال الفنية التي قام بها الفنانون في هذا المعرض ، بمثابة النزوع نحو استعمال لكل ما هو متداول ، والاقل جمالية، والاكثر زعقا لملامح وسائل الاعلام، أي بمعنى آخر، العودة على الصعيد الفني الى الصورة التي تستخدمها وسائل الاعلام الغربية، الصورة الفوتوغرافية بكل تقنياتها الفيديوية، الفيلمية، الطباعية، كمصطلح ثقافي اعلامي اعلاني في الصحافة والمجلات والتلفزيون، تلك الصورة التي تذهب الى الواقعة وتلتقطها في اعتبارها فكرة ينبثق جمالها من لحظة تماس خفي بين فردانية الفنان ومشروعه الانساني. الفنان هنا يتقبل من خلال عمله الفني واقع مجتمعه بموقف بارد حيادي . الصورة هنا التي تعرضها شاشات الفيديو او الفوتوغراف، هي مادة الفنان عن البشرية، من انجاز افكاره وخياله، لم تكن بحاجة الى يده كما كان الأمر سابقا  لكي تخطط وتضع الالوان والمساحات، فهذا الفن  يحتاج الى مهارة حرفية ، ومثل هذا الفعل لايحتاج الى عناء كبير، فانجاز الصورة ، كل صورة، يستدعي لملمة كل مستويات النظر اليها وتجمع معانيها.انها عملية تأليف وتوليف من صور   تتناقض وتنسجم بعضها مع البعض الآخر لتشكل سير متلاصقة عن حقائق نعيشها يحاول الفنان تأكيدها في ذهن متلقيه من أجل خلق نوع من الوعي ، يحمل في طياته، سخرية سوداء، تهكم مرّ، ضعف ايمان، تعرية لوقائع بشرية منغلقة. انها كل ذلك مجتمعا ليقول الفنان قولته عن وجودنا الانساني باعتباره حيز يتحتم على عين المشاهد متابعته ورصده . انها محاولات في إعادة بناء جديد ومغاير ومحرر من أية قيود، ليحصل الدمج المطلوب بين الفن والحياة، بعيدا عن كل المقاييس الجمالية والاخلاقية التي كانت متبعة في الماضي.

لم يخرج جميع المشاركون عن شروط اللوحة الفنية المسندية، اذ كانت لعدد منهم عدة محاولات للعودة الى عوالمها بعيدا عن الاستسهال والارتجال من ابراز الامكانيات اليدوية الحرفية في صناعة اللوحة التشكيلية التقليدية، بعد ان فقدت اللوحة وتقاليدها جزءا كبيرا من كرامتها على ضوء التخمة التعددية للوسائط التقنية الجديدة ، اذ تفتت خصائص اللوحة ضمن الفنون الرديفة، من مسرح وسينما وشينوغرافيا وفن ايحائي، وعمارة ونحت،  فقد مثلت العودة الى الاسلوب الفني التقليدي اتجاها جديدا متحديا، لوحات احادية اللون، ولوحات اخرى ملونة، تمتلكها انطباعية، تميل الى التحليل الدقيق للرؤية والملاحظة، استدعى بعضها وقفات مطولة من قبل المشاهدين، بلونيتها المشرقة، وتألق الوانها وصفائها .

 روما

عرض مقالات: