موت المبدعين ــ على وجه التحديد ــ بأعمار قصيرة ، قضية حظيت باهتمام عدد من الدارسين الذين بحثوا فيها وتناولوا اسبابها برؤى مختلفة ، بعضهم عزاها لأسباب تتعلق بدواخل المبدع نفسه حيث يرى هذا الفريق ان الاحساس العالي بالعبء والحزن واعتصار المبدع فكره الابداعي لتنشيط الخيال يؤدي الى استنزاف مناعته ومقاومته ويحيله هذا الجهد الانساني الى كائن هش لايقوى على مواجهة تحديات الحياة ، في حين يطرح الكاتب المصري” أحمد سويلم “ في كتابه ( شعراء العمر القصير ) تصوراً آخر لأسباب موت الشعراء بأعمار قصيرة يتلخص بتمرد هؤلاء الشعراء على واقعهم والاتجاه الى العزلة التي يقضونها في تدمير النفس من خلال تعاطي الخمور وتغييب العقل بطرق مختلفة ، ومع ان هذا التصور يحتمل جانبا من الصواب من خلال تشابه نهايات عدد من الشعراء الاّ انه لايمكن اعتماده لوحده وتعميمه بشكل مطلق ، حيث ان نهايات متعددة غيبّت عدد من المبدعين في ظروف مختلفة، فعلى سبيل المثال لا الحصر فان الشاعر لوركا ( 32 عام ) مات معدوما والشاعر ماياكوفسكي ( 35 عام ) مات منتحرا والشاعر بوشكين ( 32 ) مات مقتولا بالمبارزة والشاعر لوتريامون ( 24 عام ) موت غامض والشاعر جون كيتس ( 26 عام ) مات بمرض السل والشاعر بدر شاكر السياب ( 38 عام ) مات نتيجة تفاقم الآلام في الظهر والشاعر ابو القاسم الشابي ( 25 عام ) مات بمرض القلب والشاعر أمل دنقل ( 43 عام ) مات بمرض السرطان والقائمة تطول .


الشاعر صاحب الضويري (1947 ـ 1985) يمكن تصنيفه ضمن مجموعة الشعراء الذين ماتوا بأعمار قصيرة وبنهاية تنسجم مع تصور الناقد سويلم ، فقد مات هذا الشاعر وهو بعمر ( 38 عام ) بعد ان عاش حياة غارقة بالهموم والأزمات الشخصية والاجتماعية ، وهو بحدسه الفطري تنبأ برحيله المبكر من دون ان يساوره شك ولو لمرة واحدة بانه سيعيش سعيدا يوما ما ، حيث عاش هذا الهاجس في مرحلة مبكرة من حياته ، جسدت ذلك قصيدته ( متعوب ) التي تعد من بواكير شعره والتي كتبها في مطلع السبعينيات وكان في العشرين من عمره ، ففي هذه القصيدة ترد مجموعة من الصور توحي بان الشاعر مقبل على حياة عاصفة بالأزمات والانكسارات ابتداءً من عنوان القصيدة ( متعوب ) الذي يحمل دلالة الاستسلام وعدم القدرة على مواجهة التحديات وصولاً الى البوح المباشر بالخواء وفقدان الأمل :
وبكه عمري حماده وبس عراجيب .. وكصور الأمل صارت خرايب
يأخذنا الشاعر في رحلة عذاباته التي من ابرزها فقدان الاحساس بجدوى الحياة التي هي ظاهرة سلوكية تجعل الانسان محبطاً وتدفعه الى النفور من حياته والتفكير بالخلاص منها ، وللأسف هذا الاحساس لازم الضويري منذ وقت مبكر من حياته وظل ينموفي داخله حتى وصل به الى محاولة انتحاره الفاشلة ، وقصيدة ( متعوب ) المبكرة بالذات انطوت على الكثير من اشارات تمرد الضويري على واقعه وشعوره بالمرارة والحيف ، فالقصيدة كانت مثقلة بالشكوى من ظلم ومعاكسات الزمان له ( عفه كلبي شحمل لوعات وشال ) ( يفر بيه الوكت فر المحاجيل ) ( يدولبني الزمان شلون ماراد ) ( نشف ريجي ) ( واظل ملجود ) ( اسهر والدموع مرافجه الليل ) ( جره بيه الألم مجرى المرازيب ) ( جاهذا العمر منبت عواجيل ) ، وهذا الحشد من الصور السوداوية التي وردت في القصيدة كانت مؤشراًعلى خيبة الشاعر وشعوره باليأس والضياع . وهناك مصادفة غريبة تستحق التوقف عندها وتأملها بعمق هي التقاء بعض جوانب تجربته مع تجربة الشاعر الروسيماياكوفسكي “ بالرغم من المسافة الزمنية والمكانية بينهما ، فكلاهما عاش أزمة شخصية حادة دفعت بهما الى الاقدام على الانتحار في غرفة معزولة باطلاق الرصاص على نفسيهما وهما في سن الخامسة والثلاثين من العمر ، مع الاختلاف في النهاية حيث لم يستجب القدر للأول فنجا باعجوبة من تلك المحاولة المرعبة في حين انتهت حياة الثاني فيها .
والقاريء لشعر الضويري يكتشف انه كثّف من استخدام مفردة ( العمر ) في مواقع متعددة من قصائده وبدلالات مختلفة وكما اسلفنا انه بحدسه الفطري تنبأ بأن رحلة العمر قصيرة وكأن القدر وافقه في تنبؤه فرحل وهو لم يتم الثامنة والثلاثين من عمره :
صبّح عندنا ياكوم خطار .. الموت ومن فرش للموت داره وفي معظم قصائده تشعر انه يعيش محنة مع العمر حيث تقرأ فيها الشعور بالاحباط واليأس من ايجاد شريك يتمتع بعذوبة الضمير ( انه الذي عيّه وعجز ضامري .. لن ماشفت واحد عذب ضامره ) وبالتالي هو غير ملزم بالانسجام مع هذا العمر وتحمل المزيد من الضربات :
صبر النوك لابد ما اله حدود .. ومو مطلوب اظل عمرين صابر
وحتى مرحلة الشباب التي تمثل ربيع الانسان وانطلاق احلامه الجميلة نحو المستقبل فان الضويري لم يستثمرها بتجديد روحه والتفرغ لبناء مستقبله انما اعلن القطيعة مبكرا مع شبابه :
يدولاب العمر دني الثلاثين .. تراني عله الشباب الحين زعلان
لقد عاش الشاعرقلقا ( خاف غصن الشوك ينهيه الهلاك ) نادما ( حسافه عله السنين تروح تغريب ) يائسا ً ( لاطال عمره الي يداعي بعمر ) ( من اكلك مابعد بالروح جمار ) وينتهي من هذه العذابات الى التوسل بالموت مستعجلا الرحيل :
كل ليلة احث اعله السفر محملي
وآخذ متاعي من الشراب ابعجل
وللضويري فلسفته الجميلة في تجسيد مراحل العمر بوسيلة ايضاحية يلتقط مفرداتها من الواقع الشعبي فهو يقول ( العمر حايط تمايل وارتجه وطاح ) فيشير الى مرحلة الشباب التي تمتاز بالقوة والصلابة فيشبهها بالحايط ولكن بعد توسط العمر تبدأ قوى الانسان بالضعف والاهتزاز فيحتاج الى من يتكأ عليه فيعبرعن الحال بـ ( تمايل وارتجه ) الى ان يحل الموت الذي يشير اليه بانهيار ذلك الكيان بـ ( طاح ).
وهو حتى في الاجناس الاخرى من الشعر ( الموال ، الابوذية ، الدارمي ) لم يغادر ساحة الهواجس المرعبة التي أحالته الى كائن محبط ويائس من صلاح أيامه ففي أبوذيه له يجمع فيه شكواه وعجزه ويأسه :
روحي الضيم الي عليهه شجرهه
بروك شمرد اعتنهه شجرهه
الوادم زرعت وخضر شجرهه
وانه ماظن يخضر عود اليه
الضويري استخدم الشعر كعلاج ذاتي لافراغ همومه والتخلص من الضغط النفسي الذي كان يؤرقه ويدفع به الى النهاية الحتمية لشاعر عاش الشعور بالمرارة في مرحلة مبكرة من عمره ، و ظلت مفردة ( العمر ) تضيء اغلب قصائده ومذكرا العراقيين بانطفاء ضوء العمر يوما ما .
العمر ماتدرون تاليته الفراك .. كلي شيكضي الطيب ويه أهل العراك

عرض مقالات: