رواية “درويش” هي الأولى لماجد الخطيب، أصدرتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في العام 2020. , ولأنني قرأت العديد من نتاجاته المسرحية، كنت متلهفاً لمعرفة كيف يكتب الخطيب الرواية، فمسرحياته التي قرأتها تعتمد اسلوب البناء الدرامي، حيث يبدأ بعرض الشخوص، ثم تتصاعد لديه الأحداث في الوسط، فتعقبها نهاية لا تخطر على بال أحد. النهاية في مسرحياته ، هي الأساس الذي يبني عليها كامل قصته، لهذا لا تحاول أن تتوقع شكلها، وان جاز لي القول، هي اشبه بنهايات قصص اجاثا كريستي، لكنها سياسية وليست بوليسية.

وعلى عكس مسرحياته تبدأ رواية “درويش” من النهاية، في الساعات الأخيرة من حياة جد الكاتب ماجد الخطيب، وهو يضعنا أمام شخصية أسطورية لا تتردد في محاربة ملك الموت، عزرائيل، عندما طلب سيفه، لينقذ أبناءه وأحفاده من النهاية المحتومة، مما يجعل القارئ يتوه، في هذه الشخصية الغريبة، فمن أين لها تلك القوة، هل درويش مؤمن بالله، أم ملحد؟ التناقض بين الإيمان بوجود عزرائيل، لا تقابله الرغبة بقتله لإنقاذ البشرية من النهاية الحتمية، أي الموت.

الرواية توثق قصتين، شخصية درويش البطل الباحث عن الخلود من دون أن يدري، وشخصية مدينة البصرة، متعددة الثقافات والامكانات، حيث ولد درويش ومات فيها. فالخطيب يرسم شخصية درويش عن طريق القصص التي عاشها، في نفس الوقت يركز كثيراً على وصف مدينة البصرة، حاراتها، انهارها، جسورها، عوائلها، ويفرد قصة كاملة لحوار بين نخلتين، رمز مدينة البصرة. هذا المزج يجعل القارئ يسافر مع الشخصية والمدينة ليعيش أحداثا لم يشهدها وأماكن لم يزرها، فمن لم يذهب للبصرة ولم يلتق بدرويش، لا ينتابه العناء في معرفة ردود أفعاله، كما أنه لا يتيه وهو يعبر جسورها ويتنقل بين بساتينها، أو يستطعم تمرها.

يأخذنا ماجد الخطيب لنعيش مع شخصيات، أثرت في حيوات البصرة ومجتمعات أخرى، مثل (صبري صندوق أمين البصرة)، وشخصيات يهودية سادة وعبيد، مشاهير ونكرات، وكأنه يقول إن البصرة مثلما فيها ثروات طبيعية، فيها أيضاً ثروة بشرية لم يجر الاهتمام بها. لهذا لا بد ان يستوقفك انتصار درويش على بطل الزورخانة الإيراني، ومن بعده النجفي، وما رافقهما من أحداث، هل كانت قصة من قصص درويش ام مندوب البصرة بالزورخانة؟ لم يغب عن الرواية دور المرأة البصرية، فراح يوثقه بعدة قصص وبمختلف الأشكال، ومن يعرف ماجد الخطيب سيعرف جيداً لماذا اختار تلك النساء ولماذا قدمهن بتلك الأشكال، بين عزباء لا أحد يعرف ان كانت متزوجة أم لا، أو “مطيرجية” تقف في سوق الرجال، أم ترمي نفسها بالنهر لأجل طفلها، امرأة شرسة لا تتردد عن القتال بالشارع، كلهن نماذج قوية، يعكسن صورة المرأة التي يريدها ان تكون.

يبحث الكاتب في مشاكل المجتمع البصري كنموذج للمجتمع العراقي، وهو يغط في الخرافة وهيمنة رجل الدين والجهل، عندما يروي لنا قصصا متعددة يمر بها درويش، أحياناً يلجأ الى الحوار، وأخرى يضطر أن يأخذ دور البطل الاسطوري، حتى يثبت للناس، أن ما يؤمنون به ليس أكثر من خرافة، وأحياناً يجبر على ممارسة دور ما، لا بد أن يكون البطل فيه. هنا يطرح القارئ السؤال، هل اختار ماجد الخطيب الزمن المحدد لإصدار روايته، وهو يرد على خرافات المجتمع العراقي التي يغرق بها اليوم، أم أن المنتفضين في ساحات الاعتصام، ألهبوا قريحته لكتابة روايته الأولى عن جده الاسطوري والبصرة صاحبة الأمجاد؟

عندما يتجول القارئ في رواية درويش وهو لا يعرف الكاتب، لن يشك أن ماجد الخطيب مزج بين قصص جده درويش، وقصصه الشخصية، ولا ندري إن كان قد أضاف قصصاً أخرى لشخصيات مرت بحياته، هذا التلاعب بالقارئ يبدو مقصوداً، أما لأن تاريخه المتنوع قد تمرد عليه، وقفزت تلك الشخصيات اللا بصرية من عقله الباطن الى قصص درويش والبصرة، أو هي رغبة شخصية في نقل تجاربه ومعارفه إلى القارئ، وفي كلا الحالتين هو تحايل مقبول، لما يحمله من أهداف نبيلة، تربط بين الخزين المعرفي، والقدرة على ترجمتها في قصص محبكة ضمن رواية ممتعة.

لو عدنا إلى اسلوب كتابة الخطيب لمسرحياته، سنجده حاضراً في رواية “درويش”، بل هو لم يستطع الخروج منه إلى عوالم الرواية الأكثر مشقة، فقد استعاض عن رسم خطوط درامية مرافقة للدراما الرئيسية، بان قَطّعَ الرواية الى قصص قصيرة، ليدخل القارئ بدوامة ألف ليلة وليلة، وبدل أن ننتظر شهرزاد لتروي الحكاية ننتظر درويش في موقف بطولي جديد. إلى أي مدى نجح الخطيب في الهروب من الأسلوب الكلاسيكي للرواية، الجواب يختلف من قارئ إلى آخر، لكن المتعة متوفرة.

الرواية لم تأت منسجمة مع قدرات ماجد الخطيب التي أشرت لها آنفا، فلو أنه انتهى بالعودة لليلة وفاة درويش، وأقفلها لكانت أكثر اقناعاً من إضافة فصل فلاش باك على الرواية، هذا الفصل لم أجد له تفسيراً غير، ساعات الغيبوبة التي سبقت طلب السيف لمقاتلة عزرائيل، وهو ما كان يدور في ذاكرة درويش، عندما بقي لوحده بالغرفة، فهل كان الراوي درويشا أم هو ماجد الخطيب؟ أترك لكم حيرتي بعد أن تختتموا قراءة الرواية.

عرض مقالات:

مقالات اخری للكاتب