عديدة هي الأسباب التي تدعوني لوصف داروين وماركس وفرويّد بالمثلث الهرمي الذهبي للعبقرية الإنسانية، لعل أبرزها دراستهم للإنسان بوصفه كائناً طبيعياً مرتبطاً بالأرض ومخلوقاتها، وبالمجتمعات البشرية، وبواقعية الحياة والغرائز والهورمونات والصبغات الجينية (الموروثات) والتركيبات البيولوجية ثم النفسية.. إذ أنزلت هذه الدراسات والأبحاث العلمية الكائن البشري من علياء السماء إلى واقعه الأرضي, وبددت كل الأوهام والأساطير وميثولوجيا الشعوب والتقديسات الدينية – إن كانت أرضية أو سمائية – التي أسبغتها على عملية خلق الإنسان وتكوينه وتركيبه التي وصلت أحياناً إلى أسطورة تأليهه أو جعله نصف إله ونصف إنسان كما في أغلب الميثولوجيات والأساطير الشعبية ومنها المصرية والرافدينيّة والإغريقية على سبيل المثال لا الحصر, والتي بالغت في وجود ((كائنات عليّا مستترة)) تعمل على تنظيم الكون والمخلوقات وما إلى غير ذلك من امور مختلفة متعددة.

ولم يكن القصد من تلك الدراسات والأبحاث العلمية التحليلية النقدية تحقير الإنسان أو الحط من قدره, كما يتوهم بعض منتقدي هذا الهرم الذهبي للعبقرية الإنسانية, بل كان المقصود وضع الإنسان على قدميه بالشكل الطبيعي الصحيح وليس المقلوب؛ من أجل ارتقاء الإنسان من الأرض إلى السماء مادام قد نجح في اغتنام اللحظة التاريخية والبيولوجية الخطيرة أو الطفرة العملاقة الخلاقة في تحوّل أرقى الثديات إلى كائنات بشرية انفصلت عن بقية الكائنات الغابية وشقت طريقها لتكوين تجمعات بشرية إنسيّة جديدة ومختلفة، كما يُستنتج من أبحاث ودراسات وتحليلات (داروين) وتلامذته من علماء التاريخ الطبيعي والبيولوجي والمخلوقات الأرضية المختلفة.

وفي هذه النقطة بالذات تكمن أهمية (داروين) كعالِمْ؛ لأنه أحرز انتصاراً كبيراً عندما فسَّر أصل الأجناس (الأنواع) بواسطة الاختيار أو الانتخاب الطبيعي, وهي نظرية حطمت تماماً التفسير الغائي القائل بالخلق الخاص على حدّ تعبير (جون لويس) في كتابه الرائع ((المدخل إلى الفلسفة)) * ((1))

وما دامت تلك التجمعات البشرية البسيطة قد نجحت في عبور المرحلة المشاعية  البدائية القديمة, ووصلت إلى مراحل وخطوات متقدمة بالنسبة لقوى وعلاقات الانتاج كما سلط الأضواء عليها ماركس ورفيق دربه إنجلز الذي كان قد كتب عن أصل العائلة والمِلكيّة الخاصة في تلك المجتمعات القديمة ومنها (( المجتمع الأمومي )), أو الفترة التي سادت بها المرأة التاريخ البشري خلال مرحلة محددة.

لذلك وضعت الماركسية نصب عينيها مهمة اعادة القيمة والاعتبار للمرأة بوصفها نصف المجتمع ولها الدور الخلاق في توحيد وحماية الأسرة؛ وبالتالي تطور المجتمعات البشرية المتساوية في الحقوق والواجبات هنا على هذه الأرض وليس في أي مكان آخر .. مجتمعات خالية من الاستغلال الطبقي ومن استثمار قوة عمل المرأة بأجور منخفضة, مع محاربة أو منع عمالة الأطفال الذين يجب أن يكون مكانهم الطبيعي على مقاعد الدراسة والتعلم وكسب المهارات العملية والثقافية والانتاجية سواء بسواء.

وفي كل هذه الأمور ليس ثمة تحقيراً للإنسان حتى وإن كشفت الماركسية عن الجوانب السلبية في العلاقات الانتاجية والاجتماعية في المراحل المظلمة من التاريخ :- العبودية – الإقطاعية – النمط الآسيوي للإنتاج – الحروب – السلب والسبي – الرأسمالية الاحتكارية البشعة ... وأخيراً المرحلة الامبريالية السوداء !

أما العالِم (سيغموند فرويد) فقد استثمر الأساطير القديمة والميثولوجيات والجوانب الغريزية في بنيّة الكائن البشري, واستعار من الآداب المختلفة ولاسيّما الإغريقية [عقدة أوديب وألتكرا, مثلاً] وحتى آداب ونتاجات عصره ليغوص في النفس البشرية ويميط اللثام عن ذلك الكهف المظلم والمغارة العمياء التي أطلق عليها اسم “الهو” أو اللاوعي؛ ليس من أجل تحقير الإنسان والحط من شأنه, بل لرفعه إلى مرحلة الوعي والنور والأخلاق الحميدة والقيّم الإنسانية – مرحلة الاستيقاظ وتوسيع دائرة المعرفة – التي شكلت الجانب الإيجابي في كل تلك الأساطير القديمة وميثولوجيا الشعوب بما فيها الأديان الأرضية والسماوية وحتى الفلسفات المثالية على مراحل التاريخ المتعددة .. أو ما تسميه البوذية = كما عند زن Zen = بمرحلة الاستنارة والدعوة إلى عمل الخير وتجنب الشر وتنقية القلب كما ورد في الصفحة الأخيرة من كتاب إريك فروم و ( د. ت. سوزوكي ) المعنون ب { فرويد وبوذا } * (( 2 ))

بالطبع إنّ مثل هذه الدعوات, والنوايا الحسنة, لا تقتصر على البوذية بل هي موجودة في جميع الأساطير وميثولوجيات وأديان الشعوب والعقائد والمذاهب والفلسفات الإنسانية, قديماً وحديثاً, غير أن المهم هو التطبيق والسبل العلمية القمينة في الوصول إلى تحقيق هذه الأماني والأحلام البشرية.

ولذلك أعادت رؤوس المثلث الذهبي للعبقرية الإنسانية ( داروين – ماركس – فرويد ) الإنسان واقفاً على قدميه, عارياً أمام الحقائق التاريخية والعلمية لينطلق بوساطة العِلم والتقنية الحديثة الصحيحة ويحقق بالفعل والواقع ما كان قد حلم به الإنسان النبيل القديم بدءاً من مرحلة التدوين { أسطورة جلجامش على سبيل المثال } وما قبلها من تراث شفاهي غير مكتوب ومبثوث في الحكايات والأمثلة والحِكمْ الشعبية عند الشعوب كافة, مروراً بأحلام الشعراء وتنهدات النماذج البطولية في الملاحم القديمة وأبطال روايات العصر الحديث ومسرحيات شكسبير ودماء ثورات أوروبا وعصر الاصلاح والتنوير ( ومنها الثورة الفرنسية الكبرى وكومونة باريس ), من غير أن تنتهي هذه السلسلة بحروب تحرير الشعوب والقوميات المضطهدة خلال القرنين الأخيرين, ورغبة هذه الشعوب بإنشاء دولة المواطنة والمساواة والحرية والديمقراطية المدنية الحديثة والتخلص من الأنظمة الرأسمالية وتغوّل شركات الاحتكار المستغِّلة – بما فيها شركات صناعة أسلحة الدمار الشامل – لاسيّما في الولايات المتحدة الأمريكية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب عراقي مستقل مقيم في سورية  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والهوامش

1 - المصدر: جون لويس – المدخل إلى الفلسفة – ترجمة أنور عبد الملك / دار الحقيقة للطباعة والنشر في بيروت – الطبعة الثانية 1973م.

2 - فرويد وبوذا: التصوّف البوذي والتحليل النفسي - ترجمة د. ثائر ديب – دار المركز الثقافي للطباعة والنشر – دمشق طبعة 2007 م

عرض مقالات: