في خطوة استباقية، اعلنت رئاسة الجمهورية الايطالية،تقديم  بدء احتفالاتها سنة كاملة،  بمناسبة الذكرى 700 لوفاة شاعر ايطاليا الكبير دانتي( 1265ــ 1321)،الذي يعد علامة بارزة في الأدب العالمي ، والذي وصفه رئيس الجمهورية سيرجو ماتاريلا    بـ( مصدر الهام لكل الاجيال من الشعراء والفنانين والسياسيين من الذين بنوا وحدة ايطاليا. وهو الأب والركيزة الاساسية لها . لقد انبعثت روح دانتي من إيطاليا إلى العالم ، وأضاءته بالشعر والجمال والعاطفة والشجاعة).                                         وقد بدأت الاحتفالات التي ستستمر حتى نهاية شهر ستنمبر/ أيلول من العام القادم ،ببرنامج موسيقي اوركسترالي اوبرالي، لعدد كبير من الاعمال الموسيقية الكلاسيكية والاوبرالية المحلية والعالمية التي استلهمت من " الكوميديا الالهية"، في احدى قاعات قصر الكورينالى الجمهوري.

 دانتي اليكيري، أحد الشعراء الذين غذّوا التطور اللغوي الأدبي بمدرسة الشعر الحديث بإيطاليا. وهو أحد الذين أسهموا في إحياء إحدى اللهجات التي عرفت في أيامه، وكتب بها لتتحول إلى اللغة الايطالية الحالية، وتنتصر على اللاتينية التي كانت سائدة.يتزامن هذا الاحتفال مع احتفالات اخرى تقام في كل من مدينة فلورنسا، ومدينة رافينا، ومدينة أسيسي،باقامة الندوات والمحاضرات، والقراءات الشعرية ، وعرض الافلام الروائية والوثائقية ،جنبا الى جنب اعمال موسيقية غنائية كورالية، وافتتاح معارض فنية غرافيكية شهيرة تنظمها بلديات هذه المدن بالاشتراك مع منظمات ومكتبات ومسارح محلية وعالمية.

  ولد دانتي أليكيري بتاريخ 12 مايو سنة 1265 في عائلة لها باع طويل من الانخراط في المشهد السياسي المعقد لمدينة فلورنسا، وقد انعكس هذا الأمر في فصل "الجحيم" من كتابة الفخم " الكوميديا الالهية"الذي ألفه لاحقا.

توفيت والدته بعد ولادته بسنوات قليلة، وعندما بلغ من العمر 12 عاما، جرى ترتيب زواجه من جيما دوناتي، ابنة إحدى العائلات الفلورنتينية. الا ان دانتي كان هائما في غرام امرأة أخرى اسمها بياتريسا، والتي ستكون صاحبة تأثير كبير عليه، وستشكل شخصيتها أساس ملحمة الكوميديا الإلهية .وكان حب دانتي لها ساميا ومخلصا، ولكن تشاء الظروف أن تتوفى بياتريسا سنة 1290، فحزن دانتي حزنا عظيما، وعبر عن مشاعره في كتابه " حياة جديدة"، الذي نشر سنة  1295. وفيه يعبر عن وقائع وأحداث السيرة الذاتية فهي تحكي حياة دانتي الروحية، وقد نظمت في 42 فصلا بنثر مترابط في قصة متجانسة، تشرح سلسلة من القصائد المركبة والمنظومة في أوقات مختلفة.

بعد وفاة بياتريسا بفترة قصيرة، بدأ دانتي الانغماس في دراسة الفلسفة، والمكائد التي كانت تحاك في المشهد السياسي لمدينة فلورنسا.اذ كانت الفوضى والاضطرابات تعم أرجاء هذه الامارة المستقلة، وخاصة مع وجود جماعات متصارعة يمثل كل منها الإمبراطور أو البابا. وفي ذلك الوقت، شغل دانتي عددا من المناصب الهامة في فلورنسا، غير أنه فقد شعبيته في عام 1312، ونفي إلى خارج المدينة على يد قادة جناح فصيل سياسي كان مسيطرا على الحكم، ومتحالفا مع البابا بونيفاس الثامن (سيُذكر هذا البابا إضافة إلى شخصيات سياسية أخرى في فصل الجحيم ضمن كتاب الكوميديا الالهية).فالتجأ الى مدينة بولونيا  سنة 1304التي كانت معقل المثقفين المنفيين. عزف دانتي عن ممارسة أي نشاط سياسي، وباشر تأليف الكتب، وتخيل في ذهنه الملامح الأولى للكوميديا الإلهية. وهناك بدأ بتأليف كتابه اللاتيني "اللهجة العامية" ، الذي طرح فيه إمكانية إضافة بعض جوانب اللهجات الإيطالية المحكية غير المستخدمة في السياقات الأدبية، إلى الإيطالية العامية المستخدمة في المؤلفات الغرامية، بحيث تغدو الإيطالية لغة أدبية رصينة.ووفقا لدانتي، ستكون اللغة الجديدة إحدى الوسائل التي يمكن اللجوء إليها لتوحيد الأراضي الإيطالية المنقسمة .

في عام 1306، طرد جميع منفيي فلورنسا من مدينة بولونيا، فانتقل دانتي إلى  مدينة رافينا، ولكن حياته بعد ذلك بعدة سنوات كانت غامضة ومجهولة، إذ تؤكد بعض الأخبار أنه أمضى عامين في باريس من سنة 1307 إلى 1309، واثناء تواجده ، اطلع على  كتاب" المعراج " باللغة الفرنسية التي كان يجيدها اجادة تامة، والكتاب كما يؤكد المستشرق الاسباني " مانويل آسين بلاثيوس" الذي ألف كتاب " دانتي والاسلام" عام 1927، يشير الى مصادر دانتي العربية، من خلال وجود تشابه كبير بين " الكوميديا الالهية" وموضوعات عربية ، استيقت من كتاب "المعراج" الذي ألفه ابو القاسم عبد الكريم الفشيري، وترجم الى الفرنسية والاسبانية . وقد ساد صمت وتكتم أمتد الى عام 1949، حيث عثر على مخطوطات يدوية تحمل عنوان" معراج محمد" مترجمة عن اللغة اللاتينية بعدة نسخ في عدة بلدان اوربية، إضافة الى مكتبة الفاتيكان، تحمل تاريخ العام الذي ولد فيه دانتي. وهذه الاوراق المستنسخة بخط اليد تعكس التشابه الكبير بين الكوميديا وكتاب المعراج. في عام 1949ظهر كتاب باللغة الايطالية تحت عنوان"  المعراج والمصادر العربية الاسلامية للكوميديا الالهية"، قام بتأليفه المستشرق الايطالي" انريكو جيرولي" وكان حينها سفير بلاده لدى ايران، ويحمل تكرار لما كتبه المستشرق الاسباني" بلاثيوس". وقبل سنتين من هذا الحدث، اي في عام 1943، قام المستشرق الانكليزي نيكلسون بنشر مقال تحت عنوان  "الجذور الفارسية لدانتي".

  الكوميديا الإلهية عمل ملحمي شعري يصّور الحياة الإنسانية وفقا للرؤية المسيحية للحياة الآخرة، وقد كانت أشبه بصرخة تحذير تدعو المجتمع الغارق في الفساد إلى سلوك طريق البر والصلاح.يتبع القارئ في هذا العمل رحلة دانتي عبر الحياة الآخرة ، والتي تقسم إلى 3 عوالم هي: الجحيم، والمطهر والفردوس. ويقود الشاعر الروماني "فيرجل" دانتي في رحلته عبر الجحيم والمطهر، في حين تقوده "بياتريس" في رحلته عبر الفردوس.وتبدأ هذه الرحلة من الليلة التي تسبق الجمعة العظيمة إلى يوم الأربعاء بعد عيد الفصح في ربيع عام 1300.يسود بنية العوالم الثلاثة في الآخرة نمط مشترك مكون من 9 طبقات (حلقات)، وحلقة عاشرة ؛ فالجحيم مثلًا مكون من 9 طبقات يليها مكان وجود الشيطان في قاع الجحيم، وكذلك يتكون المطهر من 9 طبقات توجد في أعلاها حديقة عدن، أما الفردوس فتوجد فيه 9 طبقات يليها عرش الرب .تتألف الكوميديا الإلهية من 100  أنشودة كتبت وفق مقياس معروف باسم  (اللحن الثالث (حيث يظهر الرقم 3 في كل أجزاء العمل. في الجحيم، يقود "فيرجل" دانتي مع مجموع من الخطاة خلال الرحلة، ويتبادلون الحديث مع بعض الشخصيات. كل حلقة في الجحيم خاصة بأُناس ارتكبوا خطيئة محددة، ولم يدخر دانتي ما يمتلكه من إبداع فني في وصف مشهد العقاب وصياغته شعريا لكل حلقة. وفي المحطة الأخيرة في الجحيم، يقابل دانتي وفيرجيل الشيطان مدفونا في الجليد حتى خصره، ويرقد إلى جواره كاسيوس ويهوذا وبروتوس، أكبر الخونة في التاريخ.  بعد الجحيم، ينتقل دانتي وفيرجيل إلى المطهر، وهو عبارة عن جبل متدرج مكون من 7 طبقات يسودها العذاب والتطهر الروحي (تركز الطبقات إلى الخطايا السبعة).

وخلال الرحلة، يقابل دانتي بعض الشخصيات التي كانت بارزة في مجالات الثقافة والعدل والمحبة مثل توما الأكويني، والملك سليمان والجد الأكبر لدانتي. وفي نهاية الرحلة، يقابل دانتي شخصية أدبية من القرن الثالث عشر، كان شاعراً وكاتباً، ورجل سياسة، فلورنسي الأصل، يعتبر أكبر شاعرٍ في اللغة الإيطالية، ولهذا السبب لقّب بأكبر وأرقى شاعر. وهذا الشاعر هو دانتي اليكيري .

تقول الدراسات والبحوث في حياة دانتي العلمية إنه درس القانون والموسيقى والرسم والشعر التوسكاني في المدرسة الشعرية ألصقلية قبل أن تصبح معروفة في توسكانا ، ودرس أيضا النحت والفلسفة والسياسة والتاريخ واللاهوت، كما درس التراث اللاتيني، وألم بتراث اليونان والشرق، وعرف ثقافة العصور الوسطى . أحب دانتي اليكيري،  بياتريس، ويقال إنه رآها مرة واحدة فقط، ولم يكلمها أبدا، ولكنها كانت له دائما إلهاما، فمن الصعب جدا أن نكتشف أو نعرف في أي شيء يكمن هذا الحب، ولكن هناك شيء يحدث من التطرف في الاتجاهات في الأدب والثقافة الإيطالية، هو هذا الحب الذي أعطاه دانتي روعة جديدة، والأثر الذي تركه للشعراء والكتاب لاكتشاف البحوث ومواضيع الحب الإنشائية، بطريقة لم تكن مبالغة من قبل  حبه لبياتريس، كان يوحد بين الشعر والقصيدة، وكان يعيش معه في عشق وهيام وحماس.

عندما توفيت بياتريس عام 1290 كانت متزوجة بأحد الأثرياء، حاول دانتي إيجاد منفذ يعبر من خلاله عن حزنه، فخبأه في الأدب اللاتيني، وكرس نفسه للدراسات الفلسفية والثقافة الدينية في المدارس الدينية ، ودرس أيضاً تعاليم القديس فرانشيسكو، الذي يشرح مبدأ المتصوفين المتدينين ، وكل هذا من عشقه وهواه المبالغ فيه والمفرط للفلسفة التي كانت واضحة  في لوم وتأنيب بياتريس في المطهر. وفي الكوميديا رسم دانتي السهل والجبل والصحراء والغابة والجدول والنهر والشمس وغروبها، والحيوان والنيات. رسم كل الجسد البشري، صّور البكاء والعويل البسمات والضحكات، الشهوة، الجشع، الشراهة، الأمومة، الأبوة، الكذب السرقة، البخل، الإسراف، الحقد، الأنانية، الغضب، النفاق، الغدر، الحب، الصفح التوبة، القهر، الصفاء، الأمل، خلاف النفس، والسلام، موتى وأحياء، فقراء وأغنياء أشرار وأطهار، أطفال، نساء، داعرين، قديسين، شعراء، علماء فلاسفة، موسيقيين أبالسة وملائكة، رقة، دعابة، سخرية، تهكم، عنف، إيمان، أمل،..إلخ. توفي دانتي في 14 سبتمبر 1321 برافينا ، بعد عودته من فينيسيا  عن عمر يناهز 56 عاماً، بعد أصابته بمرض الملاريا، ودفن في كنيسة القديس بير مجيور في مدينة رافينا.

عرض مقالات: