(١)
ظلَّ الناجون أياماً يرزحون تحت وطأة السر. يتفكرون بأدمغةٍ تلبستها الحيرة.. تلك الحيرة التي خلَّفها ذاك الضحى. يتخيلون المكمَن؛ أو قُل “المسار” الذي إختطته تلك “المركبة” : مِن أيِّ زاويةٍ مظلمة أتت.. وكيف تيَّسَرَ لها الطريق، لتنفجر فيهم ؟!
قال “وحيد”، الكتبي، الذي إستلوا جسده ، بمشقةٍ بالغة.ٍمن تحت ركام ثقيل من الجدران المحطمة؛ ولتكتب له حياة ثانية: قطعاً!. أنها تسللت من خارج الحدود.. ثم راحت عيناه تتطلعان الى نقطة ما في السماء. وبيقين هش وشى به صوته، إسترسلَ قائلاً:الحدود السائبة تكون ممراً سهلاً لذوي الحيلة! . غير أنَ “كريم” الذي كان واقفاً؛ يتأملُ بضاعتهُ التي إلتهمتها النيرانُ؛ محيلة مخزن الكتب، خاصته، الى محض ركام أسود؛ مازالت تنبعثُ منهُ خيوطٌ واهنةٌ من دخان...طرح رأياً آخراً، يناقض فيه الأول؛فهو يرى :أن المركبةَ تلك.. قد عبرتِ الجسرَ، متخذة سبيل متحف أهل بغداد؛ وأنعطفت بيسرٍ نحو” شارع المتنبي”.. وهذا يعني، حتماً، أن موضع تلقيم العربة؛ يقبع في مكانٍ ما من” كرخ “ العاصمة..!!
وساعةَ أحسَّ الناجون بعقم تأويلاتهم لفكِّ طلاسم” المسار” والذي بدأَ يتشكل عندهم كأنه اُحجيةٌ؛ وأن حديثهم المرّ هذا لن يفضي الى شيءٍ- ولو يسير من يقين- وكما قال أحدهم بحسرةٍ، وهو يصفق راحتيه الفارغتين:إنَّ هذه الكلمات لن تسعف أحد... وأنها، قطعاً، لن تعيد الموتى. أَهملوا السؤال؛ وراحوا يحصون بعبثٍ خسائرهم.
كانت الخرائبُ التي خلَّفها “الحادث” مشبعةً بروائحٍ ثقيلةٍ، لم تبرح المكان لأشهرٍ تلت. إنها خليطٌ من أبخرةِ وقودٍ نفاذّة، حديد صديء، فسفور ،أو بقايا بشريةٍ لم يتسنَّ لأحد العثور عليها بين خليط الحطام.. إذ أهمِلت في زوايا منسيّة. لكِّنَ أشدّ ما يطغى على حاسة الشّمِ كانت رائحة الدخان المنبعث من الورق.. من الكتبِ المتفحمةِ التي لم يعُد لها مالك؛سوى أفواهٍ عابثةٍ من لهيب.

(٢)
من الصعبِ على المرءِ أن يرى بوضوح ورأسه فريسة صور شتى، مابرحت تتقافز فيه، كأنها ماينبعث من ألواحِ مرايا. هكذا وجدتُ نفسي، مشلولاً، كأنَّ رأسي لم يعُد لي.. لا يمتُّ لي بصلةٍ.. إنه يعملُ وحده، يستعرضُ شريطاً من صورٍ خلَّفها الحادثُ المروِّع:حطام مركبات، أسلاك شائكة، حجارة، عجلات حمالين خربة، قامة رجل تتراقص، بجنون، مشتعلة وسط أتون، ورق يتطاير كأنه أجنحة بيض تحلقُ مع أحزمةِ دخان، صوب سماء صافية، باهتة الزرقةِ... وأخيراً طنينا مدوياً ما أنفكَّ يسكنُ جمجمتي ويقيمُ فيها.
رغمَّ كلّ ماينبعث من المرايا، ظلَّ السؤال يشتعلُ في روحي كلّها..ذلكَّ السِرّ القارض للقلب، كأنه دودةٌ لعينةٌ ما إنفكت تلتهم ُ المتبقي من الذاكرةِ: من أينَّ نبعت تلك”المركبةُ” الغامضة... وماهي خريطة “المسار”؟!
كنتُ موقناً أنَّ “السرَ” سيتعبُ يوماً.،ولن يبقى حبيس سجنهِ هو الآخر.. سيتشوقُ، حتماً، للحظةِ بوحٍ، وإن تهامسَ الناجون “إن تفرَّغَ من معناه...”
أضحَتْ دروبُ المدينةِ مسكونةً بالفخاخ. وكثُرَت معها جثث مغدورين، باتت تزدحمُ بها الأرصفةَ والزوايا والسواقي الضالّة البعيدة. وإستحالت المدينةُ الى مايشبه النسيج، تنسج خيوطه أصابعٌ لا مرئية، إذ صار كل شيءٍ فيها قابلاً للإشتعال :عربات، أكياس نفايات... حتى جثث البشرِ، والقطط والكلاب النافقة.. لم تسلم هي الأخرى، فقد عُبِئَت بالشحناتِ القاتلةِ... خطةٌ مريبةٌ تستهدفُ أرواحَ العابرين...!!
لكنّي كنتُ حروناً.!. كنتُ أصرفُ الوقتَ؛ لأشهرٍ عديدةٍ، متطلعاً الى شارعِ الكتبِ وحطامه، حتى إذا ماعَّزت الإشارة التي أبغي... أظلُّ أدورُ في أزِقتهِ الضيقة، مطيلاً التحديق في البيوت الخرِبة، نوافذها، شناشيلها التي طالتها يدُّ النسيانِ... حيث لا وجود لوجه إمرأةٍ؛ أو ظلٍّ.. أمستْ مبقورةُ الأحشاء: قضبانها، أعمدة سقوفها، كأنها أضلاع عظايا، أو حيوان نافق جففتهُ الريح.. محض حجارة تحكي حكايا إندرست، ولم تعُد تعني أحدا!. وما إن يكّل جسدي ولا تسعفني قدماي: أقعي على دكَّةٍ عند بوابة الجامع الخشبيّة.. جامع “الحيدرخانه”. أتنصتُ لخطى العابرين؛ وأرقبُ مكامنَ الظلِّ في شارعِ”الرشيد”. الذي يبدو، عند الغروبِ، فارِغاً.. لايُسمعُ فيه صوت.. خلا ما تحمله الريحُ من دويِّ إنفجارات بعيدة.
لم أكُن حذراً، أو محتاطاً، كما ينبغي لكائن محاصر بالأفخاخِ. إذ كنتُ أرددُ بينَ الفينة والأخرى؛ كأني” درويشٌ” أدّمنَ الذِكرَ :”حين يكون السقوط قدراً... فما معنى اللجام أو السرج...!”

(٣)
الأيامُ التي أعقبتِ “الحادث” أمستْ كأنها يومٌ واحدٌ، مثقوب. لقد تبلدَّ عندي الإحساسُ بالزمن. لكنَّ هاتفاً عابثاً، هتفَ بي ذات صباح” أن أضبطَ وقتَ الساعةِ”.. كانَ المؤشرَ فيها قد توقف عن عمله منذ زمنٍ، لم أعُد أتذكره.. ربما بفعلِ النسيانُ الذي الَّمَ بي منذُ ذاكَ الضحى.. ضحى
الحادث”ً،غير إني وبعد أن أدرتُ “الزمبلك”: تبين أنها عاطلةٌ!
بدت ساحةُ “الميدان” شبه فارغة؛ وكأنَّ الحياةَ إنسحبت منها؛ لحظة سماعي صوتَ إطلاقةٍ تمرقُ قريباً من رأسيَّ. تسمرتُ في مكاني جامداً، في محاولةٍ يائسة لأفهمَ ما حصل! إلا أنَّ مسامعي سرعان مإلتقَطت نداء يحثني على الركض السريع... كان النداءُ يصدرُ من رجلٍ كهلٍ نحيف، يتكومُ أسفَلَ طاولة تقبع في فوهةِ سوق “الهرج”.. وما إن إقتربتُ منهُ لاهثاٍ؛ حتى بادرَ من فورهِ الى الخروج من موضعهِ، ساحباً إيايَّ معه، وهو يلهثُ هو الآخر قائِلاً :
-
هذا القنّاصُ المشعول الصفحةِ...لم يبق على زاحفٍ أو ماشٍ إلا و حصد روحه.. لا يفرقُ بين حشرٍ أو بشرٍ . منذُ الصباح الباكر وهو منكبٌ على عملهِ؛ ولكن بحرفيةٍ وإتقانٍ.. أحسدهُ عليها... نغل.. حرِّيف!!
إنتفضت بضعةُ طيور، كانت تقطنُ فوق سقيفة “صانع المفاتيح”، بطيرانٍ مضطربٍ، تحت وقعِ رشقةُ إطلاقاتٍ، مزقت السكون، المريب، في فضاء “الميدان”، مماحدا بالرجل النحيف أن يقفزَ مسرعاً الى موضعهِ الأمين، أسفل الطاولة؛ التي كانت تزدحمُ بهياكلِ مذياعاتٍ قديمة،، مكبرات صوت مغبرة، وصفائح ألكترونية خضر صغيرة بحجمِ الكفِ بدا بعضها مهشماً. وجدتُ نفسي، هلعاً، أحتمي بظلِ جدارٍ رطبٍ خلف صاحب الطاولةِ، والذي سمعتهُ يعاودُ حديثه ثانية.. ولكن بنبرةِصوتٍ؛ بدت وكأنهُ يودعني حكمةً تورثها منذُ سنين :
القنّاص ُ الماهرُ.. لابُدَّ أن يكون صبوراً... وهذا الملعون، إبن الزانيَّةِ.. هههههعع... .يُعجبُني... صبره، صبر محاربٍ عتيقٍ.. خاض حروباً طويلةً.. أكسبتهُ خبرةُ التأني في إصطيادِ الطرائٔد..أنا أعرِفُ هذا النوع بالغريزة. غريزة الحروب التي أكلتِ العمرَ كلَّهُ.. شمالاً وجنوباً... وأنتهت بي كهلاً يبيعُ العتيقَ.
تداركتُ وضعي القلق؛ ثم لم ألبثُ أن شكرتُ الرجلَ على معروفهِ معي.. وإنطلقتُ من فوري؛ موغلاً بخطى مُربكةٍ في سوق “الهرج”؛ كأني أغوصُ فيه.
كانتِ الحوانيتُ مغلقةً، والزقاقُ خالياً.. إلا حانوت، ظهرِ فارغاً حتى من صاحبه. على جدرانه تسمَّرت صور تستفز الحواس: زعماء سياسيين، نساء ورجال من أهل الفن، حرفيين إندرست حروفهم، مآذن، أمكنة وبشر لم يعُد لهم وجود.لقد إندرسوا هم أيضاً؛ وأستحالوا أطراً تعَلَقُ فوقَ حيطان المتاجر والمقاهي والبيوت. أدركتُ وأنا، منشغلٌ، بتهدئةِ مخاوفي التي هيَّجَ القناصُ ثائرتها بي :”صاحبُ هذا الحانوت الغائب، لم تعُد ذائقتهُ تستطيب أيامنا هذه لذا عَمِدَ؛ ربما بلاوعيٍ منهُ،الى جرِّ رأسهُ منها، ليستكين مع الماضي.. وليقض المتبقي من زمنه مع وقع الذكريات...ذكرياته فحسب!
يمين السوق. يتفرعُ زقاقُ الملابسِ المستعملةِ. كان فارغاً هو الآخر؛ عدا رجل يمسك مسبحةً تتدلى حباتها الناعمة من إحدى يديهِ؛ وهو يحدِّقُ، بصمتٍ الى بوابة جامع “الأحمدي” الضيقة. جوار ماكنة خياطة (سنگر) مهملة؛ لمحتُ إمرأةً، بملابس رثَّةٍ، تقعي مهطَّلة الصدرِ، تغمسُ أصابعَ متسخة بنقيعِ ثريدٍ، في جوف طاسةٍ معدنيةٍ صدئةٍ.. ثم سرعان ماإزدردتْ لقيماتها بصمت. بدتْ في الظلِّ الرطبِ كأنها قطةٌ؛ لفرطِ نحولها.
كنتُ يائساً من العثورِ على “ساعاتي”، بعينهِ، أعرفه منذ سنين خلت... ففي هذا المكان الذي هجرتهُ حركة زبائنه الدائبةِ، وزعيقُ باعتهِ المستديم يعزُّ عليَّ أن أعثر عليهِ؛ غير أني لمحتُ صندوقهُ الزجاجي من بعيد. ليعقبها، هوذاته، خارجاً من بوابةِ “عثمانُ بن سعيد”، منشغلاً بمسحِ وجهه وذراعيه العاريتين المبللتين؛ كان يتهيأ لصلاة الظهر، لحظة حييتهُ... إلا أني وجدته يحدقُ بي بإستفهامٍ وشت بهِ تقطيبةٌ إرتسمت فوق وجهه الممتليء:
-
كيفَ تمكنتَ من القدومِ.. يارجل؟!. عمّي.. الخلق كلَّها عزَّتْ عليها الروح... وهربت من هذا المكان الموبؤ بالموتِ منذ الصباح!.
تبسمتُ بوجههِ. وأنا أُغالبُ خزين الخوف بي؛ وإيقاع الكلماتِ التي أحسستُ بغربتها عني :هكذا هو القدر ياصاحبي..لقد خرجتُ من فمِ موتٍ مؤكدٍ الى الدنيا ثانية؛ وأنتَ خيرُ العارفين؛ خبِرتَ حادث “المتنبيّ” الأليم.. فأنتَ من زبائنه المعروفين.. تساومُ على سعرِ الكتاب من دون كلل!
حدَّقَ بي طويلاً؛ وهو يتناولُ الساعةَ التي مددتها أمام ناظريه؛ مواسياً إياي “السلامةُ أيها الصديق”. ثم لم يلبث أن قال مازحاً: إنكَّ ستُبطِل وضوئي..ههه.. ولكن لا ضير.....هل عرِفتَ بالأخبارِ الجديدةِ أيها الغافل؟

عرض مقالات: