تعاقب على امتلاكها وادارتها الكثيرون، ومنهم الحاج عبد الغفور النعيمي الذي جاء من الموصل تلبية لنداء خفي يشده نحو المقهى، وحبه لفن ام كلثوم. مقهى ام كلثوم في الحيدرخانه مكان يشبه النادي الفني الذي يتجمع فيه عشاق ذلك الطرب الذي تربع على ناصية الغناء العربي، منذ بدايته والى يومنا هذا.
حين تدخل اليها من ممرها الطويل، يداخلك شعور بالانتماء الى طقس خاص لا يمارس بمعزل عن هذا المكان، ويشدك اليه جو متراكم، شارك فيه اصحاب المقهى على مر سني وجودها، وعمالها المتعاقبون على الخدمة فيها، واخيرا زبائنها الذين يحرصون على جوها السحري، بتقديمهم النادر من الصور لسيدة الغناء العربي، وتبادلهم الاخبار والقصص غير المعروفة، عن ام كلثوم وملحنيها العباقرة، وكتاب كلمات اغانيها التي اصبحت كالأساطير، تتناقلها الاجيال بالتبجيل والتقديس.
الجلوس في المقهى له قوانينه الخاصة، غير المعلنة، يبدأ اول استماع الى احدى روائع السيدة في العاشرة صباحا، حين يكون اول الزبائن قد احسنوا تحضير ذائقتهم الفنية لتلك اللحظات، التي سوف ترحل بهم الى عالم مغاير تماما لعالمهم، ووسطهم الصاخب اللاهث وراء تفاصيل الحياة المملة. احد اقدم زبائن المقهى، يقول ان الانتماء الى المقهى يتطلب معرفة كبيرة باسرار غناء ام كلثوم، وتفاصيل الالحان الخالدة التي صاغها اكبر ملحني الشرق.
على مر السنين تجمعت عند ادارة المقهى، افضل التسجيلات واكثرها ندرة، فقد حرص كل من ورث المقهى على الوصول الى ابعد مكان ممكن ان يجد فيه تسجيلاً غير مسموع، حتى يقال ان الحاج عبدالغفور ذهب ذات مرة الى القاهرة وسأل السيدة ام كلثوم نفسها عن تسجيل قديم لاحدى اغانيها، فاهدته من مكتبتها الخاصة ذلك التسجيل، تقديرا له وللمقهى الذي يجمع محبي فنها العريق.
لم تدع متغيرات الحياة حول ذلك المكان الذي يبدو عصيا على الزمن، الامور تجري على نهجها الاول، فقد طالب بعض الزبائن الذين بدأ عددهم بالتزايد بادخال لعبة الدومينو والطاولي الى المقهى لطول ساعات وجودهم هناك الامر الذي اثار غضب الزبائن القدماء الذين يحرصون على تقاليد الاستماع التي رسخوها بانفسهم. وحسب المدير الحالي للمقهى، فان المقهى يحتاج الى بعض التغيير، لم يعد الجميع يأتون الى هنا للاستماع فقط، والزبون على حق دائما. ها هو احد التقاليد الفنية العريقة في بغداد، يتعرض الى التغيير والتبدل، ولكن الذي لا يتغير هو الساعة العاشرة صباحا حين يصدح صوت ام كلثوم باحدى اغانيها الاسطورية من المقهى الذي بلغ عمره قرابة الخمسة عقود.a