“بهدف تشكيل صورة كلية عن الشاعر وثماره؛ نقدم مراجعة نقدية لأحدث ديوان أصدره مع أحدث نص كتبه ولم ينشر من قبل” المحرر الثقافي.
بعدَ عدّة مجموعات شعريّة، تخطو”الذات” الشاعرة بثقة على ارتقاء سلّم الكتابة، متسامية مع جماليات الحياة ومحاولةً أنْ تضفي على ما تنتج منْ لمسات الفن في المثابات الرؤيويّة المختزنة في أصقاع النفس 0 كما إنّ المكتوب يؤشّر ويكشف عمّا هو مستترٌ من الأمور الحياتيّة العديدة، باستعارات تجمّل المنحوت في بلاغات اللغة
أسلوبان شعريان
وبهذا الجهد المسّخر لشكل القصيدة ورؤاها يستأنف الشاعر عبدالسادة البصري حضوره بمجموعة شعريّة جديدة وسمها بـ” المعني أكثر منّي” ، والصادرة من المركز الثقافي للطباعة والنشر 2016م 0 وقد ضمّت قصائد تمثّلتْ بأسلوبين شعريّين في تأثيث النصوص 0 الأول : اعتمد فيه “التفعيلة” لبناء تشكيله وإضفاء الروح الرؤيويّة الخاصة والمتوازنة مع الإيقاع المقنّن0 والثاني : ينكشف على حداثة الكتابة عبر “النثر” ، وتمتين الصلة بالمحاور المهمّة لهُ ، منْ خلال استثمار ما هو إنساني وفعّال في عمليّة الخلق الفنّي0
كُتبتْ قصائد المجموعة في أوقات متباعدة حيثُ تشيرُبعضها إلى تواريخ كتابتها في مطلع السبعينات 0 وقسّم المجموعة إلى ثلاثة أقسام حسب تلك التواريخ! 0القسم الأول: “المعني أكثر مني” وانحصرتْ كتابة نصوصه في السبعينات0 والقسم الثاني: “لهم تغريبة واحدة” وتشير تواريخ الكتابةإلى الألفية الثانية 0 أمّا القسم الثالث: “قصائد قصيرة” فهي إلتقاطات متفرّقة وتعريفات لمصطلحات حياتيّة 0 يبدأ الشاعر قصيدته “العصافير تستعيرُ أجنحتها “ باستهلال نصّي لـ” نيتشه” : “ ليت لي أنْ أرتقي إلى حيثُ أنظر إلى الحياة محرّراً من الشهوة “ 0وهي عتبة يحاول من خلالها أنْ يستثمر طاقة دلاليّة يسمو بها عنْ كلّ ما يعكّر صفو اشتغالته الحياتيّة 0 وهي رؤية حلميّة تغطّي مساحة واسعة في نصوصه واستعماله “ليت “ للتمنّي وللرغبة البعيدة الأمد ، وظّفها للأمور التي لا تتحقّق 0 وهذا يعني تشبّثه بالإطلالة منْ فوق إلى الأحلام الكبيرة ! 0ولم تكنْ غير العصافير ـمجازاًـ لحلّ هذه المسألة:
{العصافيرُ استعارتْ أجنحتها، لتحلّق صوب المذبح كي تدلي باعترافاتٍ لذنوبٍ لم ترتكبْ منها إثماً سوى التذكّر والرؤيا00}ص7 0
إستلهام التماثل
وفي قصيدة “المعني أكثر مني” استلهام للتماثل0 فالشعر في هذه الحالة يمنح الشاعر فسحة واسعةً في التماهي مع الآخر ويستلهم همومه وأحلامه والمشاغل التي تعنيه هو0 وربّما يستشرف فنّياً “التورية” في البلاغة لينشد هدفاً ما، كما في بعض قصائده 0 فالتطعيم اللغوي في القصيدة سردي / مركّب 0 تشابكتْ فيه “الحيوات” ولم ينجُ منْ منحىً غامض أوهمهُ بحداثة التراكيب ذات النسق المبهم في بعض توجّهها0 فالدوال الحاضرة والمستنطقة لحركية الأفعال هي ما عمّقت ذلك الوهم ، على اعتبار أنّ شرعنتها بالوصف والتجسيد لها بعدٌ دلالي وقناعٌ شمل توهّج إسلوب الشاعر السردي المروي بالوصف الإسطوري :
“ الوطاويطُ سلخت جلودها
كان هذا ..
عند اقتحام السحالي لأوجار الثعالب
حينها ..
راحت اللقالق تبحث عن عشّ بقمّة رأسك “ ص34 .
أو:
“ حزنٌ يسافر فوق الموج
وأنتَ عيونٌ مسملة / هاربة / باحثة ٌ بلا جدوى
تأخذكَ العرباتُ، وترجعك الأحلام
قدماك صديقتانِ دائمتانِ للأرصفة
تسامرك النجيمات .. تحملك على بساط التمنّي “ ص35
ويبدأ قسمه الثاني الموسوم بـ”لهم تغريبة واحدة” بقصيدة “مجرد اقتراح ليس الاّ “ 0وهي قصيدة ٌ محمّلة ٌ بأمنياتٍ من الصعب تحقيقها في ظلّ الأسى والألم اللذين يوشّحان عالم الواقع 0 ولكنّه يحاول أنْ يتوهّج بكشفه لهذا الإتجاه 0 وهذه هي مهمّة الشعر 0 ويطمح الشاعرُ منْ خلالها أنْ تتغيّر الكثير منْ الموبقات في الواقع الذي يقرأه0 وهو بهذا يعكسُ الإنطباع الحاصل من الصراع النفسي للإنسان بفعل الإغتراب الذي يعيشه، وتأثير هذه الحالة على ما تجودُ بهِ الحياة منْ ظواهر! 0 فالتساؤل يقضي باستجلاء “ 0 وعدم الإقتناع دفعه للتشبث بـ” لو “ حرف الإمتناع للإمتناع 0 أداة الشرط غير الجازمة لتغليب المظاهر الجمالية على الخراب المتنوّع في شكله ومظهره بلغة اليومي البسيط 0 وهو حراكٌ إيجابي مستثمر للعبور:
“ ماذا لو ..
أبدلنا ميدان الرمي،
بمدينة ألعابٍ للأطفال ؟!
وصادرنا كلّ شعارات الحرب
ورسمنا أزهاراً وحدائق
ومحونا منْ ذاكرة الناس
شكل المدفع والرشاش ..” ص39.
أمّا قصيدة “لهم تغريبة واحدة” فهي تتماهى مع الذين يحملون أرواحهم قرباناً في كلّ حين ويبحثونَ عمّا هو جديدٌ في ذلك الواقع المرير، دون التفكير منْ قبل الشاعر في طريقة محدّدةٍ للخلاص . ولكنّه يتقصّى حالاتٍ إنسانيّة لخلق توجّهٍ يتسامى معهُ لبناء ذوقٍ جمالي وحسّ فعّال، في المساهمة والتغيير، لأنّ ضغوط الحياة أكبر من الكلمات:
“ الحاملون صلبانهم .. لباسهم الرماد
لإغنياتهم طعمُ المراثي
والشمسُ لا تنام إلّا في قلوبهم
ينظرون الآسى .. ويقتاتون التسكّع
ينادمونَ قصائد نيرودا
ويسيرونَ مع أوكتافيوباث
يقصّونَ أشعارهم كالحكواتي ..
ويعلكونَ الريح !!! “ ص41 .
ومنْ هذا القسم نقرأ قصيدةً، تحاولُ أنْ تساور المتلقّي بمفارقاتٍ حياتيّة بينَ “زمكانية”ِ رؤيةٍ محدّدةٍ وأخرى بعيدة المنال!0 وشتّان ما بين منطقتي الرصد !. فقصيدة “لنْ أختلف معك بشيءٍ يا والت ويتمن” تتحرّى التباين وضرباتٍ تكشفُ سوداويّة ملهمات الشاعر في إلتقاطاته، وسخريتهُ المرّة التي تكاد تطفحُ على السطح . ونلمسها لتشكّل لنا المعنى الحياتي الذي يعيشهُ . فهو لم يختلفْ معهُ في الصفة، ولكنّهُ يختلفُ في الموجّهات الرؤيويّة للخلق الفنّي ! ، وبالتالي سيكون الكشفُ مختلفاً في النهاية :
“ لنْ أختلفَ معكَ بشيءٍ يا والت ويتمن
لحيتكَ مليئةٌ بالفراشات
ولحيتي مشعّثةٌ بغبار الحروب
شوارعُك تكنسها الرياحين
وشوارعي يبلّلها الأرق
نوافذكَ مفعمةٌ بالزقزقات
ونوافذي تمطرُ انتظاراً “ ص 44 .
وفي قسم المجموعة الثالث والأخير المعنون بـ “قصائد قصيرة”. فيها يقتنصُ لحظاتٍ حياتيّة ويؤجّجُ فيها هواهُ الشعري، كي يكشف استنتاجاته حول المحيط بهِ من الأشياء 0 فها هو يؤشّر إُلى الحريّة التي تتقاتل منْ أجلها الشعوب في أنْ تستغلّ ــ حين تُضمنَ ــ استغلالا ً جميلا ً لنضمنَ إقبال الفراشات والعصافير إلى فضائنا!:
“ لأنّني أعطيتُ الشبّاك حريّته
نامت العصافيرُ على وسادتي !! “ ص61 .
إنّ الشاعر عبدالسادة البصري في نصوصه المنوّه عنها في مجموعته الشعريّة “المعني أكثر منّي “ استطاع أنْ يجعلها مفتوحةً على مستوياتٍ متعدّدة ِالدلالات، ويكشفُ عنْ حالاتٍ صادقةٍ بجديّتها وطرافتها 0 آخذاً بنظر الإعتبار نفسهُ إنموذجاً حسّاساً بالحالة الجمعيّة التي تسكنُ ذاتهُ!.