... والعنوان اعلاه واحد من "أبيات قصيد" دالية مطواع، نظمها الجواهري، والقاها في حفل مهيب بمناسبة زيارة رسمية وثقافية قام بها الى (أبوظبي) في النصف الاول من عام 1979 وكانت ضمن أواخر سفراته الخارجية من بلاده – العراق، الذي أغترب منه، وعنه، اوائل عام 1980 وحتى رحيله في دمشق الشام عام 1997 حيث وريّ الثرى هناك ..

وأجواء القصيدة واضحة ومباشرة  في المقاصد والمدلولات التي هدف اليها الجواهري، سياسية بأمتياز، مع بعض إفاضة لمكنونات نفسية ومشاعر وجدانية، ولوعات انسانية  من الاجواء العراقية والعربية السائدة حينئذٍ، في الانكفاء والتمزق، والأحـن، وشيوع العسف والارهاب..

1/  يأتي المطلع جواهرياً، في "ديالوغ"  ذاتي - يوشر في ما يؤشر-  الى بعض عنفوان الشاعر، وتفاخره بمحطات ومواقف من حياته، وثراء منجزه الابداعي على مدى أزيد من نصف قرن..  كما يشي المطلع بما سيليه من مقاطع وأبيات لاهبة، تتوقف عند حال، وتثبت ثاني، وتتنبأ في آخــر.. فتقرر وتحكم، ثم تستنج فتحذر وتبشر في آن واحد:

أعيذكُ أن يعاصيكَ القصيدُ / وأن ينبو على فمك النشيدُ

وأن تعلو لسانك تمتماتٌ / وأن يتفرطَ العقد الفريدُ

أعيذك أن تتوهَ بكل وادٍ/ وأنت لكلّ سامعةٍ بريـدُ

فكن كالعهد منتفضاً شباباً / و جَوّد أيها اليفنُ المجيدُ

فقد آلى وريدك أن يغني / بحب الناس ما بقيَ الوريدُ

وقائلةٍ أما لكَ من جديدٍ / أقول لها القديمُ هو الجديد

كشفتَ بأمسِ وجهَ غدٍ رهيبٍ / أماطت عنه قافيةٌ شرودُ

كزرقاءِ اليمامةِ حين جَلّتْ / مصائرَ قومها بصرٌ حديد

وما كنت النبيّ بها ولكن/ نبيّ الشعـرِ شيطانُ مريدُ ..

ومن لم يتعظ لغـد بأمسٍ / وإن كان الذكيّ هو البليدُ

2/ وفي الابيات التاليات من القصيدة التي عنونها الجواهري بـ"أفتيانَ الخليج" ثمة وقفات وصف، وشكر على حسن وجميل الاهتمام الرسمي والثقافي والشعبي بزيارته لأبي ظبي، والحفاوة التي أستقبل بها، والتي لم يتوقع لها ان تكون بذلك الشكل، بحسب ما صرح به وفي أكثر من مناسبة..

وبعد ذلك يبدأ الشاعر ببث ما يعتريه من خواطر وانفعالات وشجون، وقراءات للواقع الذي تعيشه الامة، زعامات ومجتمعات وشعوبا، فراح يخاطب المحتفين به، وعبرهم المتلقين و"الصفوة" القادرين على فهم الاحداث، واستلهام العبر.. مستنهضا الهمم، و"الفتيّان" بشكل رئيس، ومحذرا من الأتي "الأعظم" والذي راح واقعاً  بعد فترات زمنية وجيزة، وتكررعلى شكل مآسي أستمرت – وتستمر- تداعياتها بصور واشكال وعناوين شتى: اضطهادا  وطغياناً وحروبا وأحترابات داخلية، وسوى ذلك من آلام وكوارث :

أفتيان الخليج وليس تألوا / دروبُ المجد تعمرها الوفودُ..

أهيبُ بكم وقد رجفَ الصعيدُ / وماتَ الوعدُ وانتفضَ الوعيدُ..

وباتت أرضنا كرةً تنزّى/ على الفرقاء تركنُ أو تميدُ

وأضحتْ ساحةُ الألعاب فيها / كأقصر ما ترسّمت الحدود

تَخَطفُها على نسقٍ بروقٌ / وترعبها سواسية رعودُ

ويوشك فرط ما دُحيّت بناها / على الرمضاء ينتشر الجليد

حذار بني الخليج فثـمّ وحشٌ / حديدُ الناب مفترسٌ حقودُ

خبيث الكيد في شرك خفي / يصيدُ عوالماً فيما يصيد

يغازلكـمْ مراودةً و يغـزي/ سواحلكم أساطيلاً ترودُ

3/  وبعد أن وثق الجواهري واقع الحال، في الابيات السابقة، حان الوقت لأن تأتي "ابيات" قصيد أخرى، وأعني بها رؤية الشاعر الخالد لبعض الوصايا، والتنبؤات التي أثبتت قوادم الاعوام صواب الكثير منها، كما سبق القول.. ولم يترك الأمر هكذا وحسب، بل انتفضت القصيدة تلتهب، وتهيب، وبقساوة مخلص حميم، تهدف للتحريض، وفق قناعات الجواهري التي باح بها مستندا الى تجاريبه في ميادين الحياة، وجهاده التنويري في ادانة العسف والتخلف، واشاعة العدالة والارتقاء:

أفتيان الخليج ولا خيـارٌ / وأن زعم الدعاةُ ولا محيدُ

وليس هناك إلا من يطاطي/ إلى المستعمرين ومن يذودُ

وما لضياعنا أمل يرجى / سوى أن يُجمعَ الشملُ البديد

فيالك أمة قسمت ثلاثاً / وعشريناً وتسأل هل مزيد؟

تعدّ لكل واحدة طبولٌ / وحراسٌ وترتفع البنودُ

وعند الهند ربعُ الكون عـدّاً / وفي شطريّن تنقسم الهنودُ

4/ ولمزيد من التأرخة والاستشهادات، لم يفوّت الجواهري الفرصة للتنبيه الى المزاعم التي كانت تسود فترة ولادة القصيدة – اي في آواخر السبعينات الماضية- صابّا جام الغضب على كل المعنيين، الرسميين والسياسيين، وغيرهم، المتاجرين – وما زالوا-  بقضايا الوطن والأمة، والقضية الفلسطينية في المقدمة طبعا...مقارناً ذلكم الحال الراهن لأولئك الزاعمين، مع احداث تاريخية ذات أكثر من مؤشر على ما ارادت القصيدة وصاحبها البوح به، موقفا وتوثيقا:  

ودجالين يصطنعون سحراً / وترياقاً بما صنع الجدودُ

تَعِلّاتٌ تشوق وهم صحاةٌ / وأطيافٌ تروقُ وهم هجودُ

ولم يُعـطِ الجدودُ (القدس) يوماً / ولا احتلتْ فلسطيناً يهودُ ..

(صلاح الدين) كان يَفّـتُ خبزاً / وكان ينامُ أرضاً والجنودُ

وكان يمدّ زنداً للمنايا / فتتبعــهُ مطاوعــةً زنــودُ

وها هو عنده فلكٌ يدوي/ وعند منعمٍ قصرٌ مشيــُد

يموتُ الخالدون بكل فـجٍ / ويستعصي على الموت الخلودُ

5/ وفي ختام داليته ذات السبعين بيتاً يعود الجواهري ليوجز، ويكرر مجددا خلاصات وآراء متعمقٍ في السياسة والفكر، ووصايا محنــكٍ في تجاريب الحياة، وتمنيّات متفائل بقدرات الشعوب والمكافحين من اجل النهوض والمستقبل "فإن تكُ أطبقتْ جدرُ الليالي/ فسوفَ يُشقُ من فجرٍ عمود" بحسب قناعات الشاعر الخالد..  

-* رواء الجصاني/ براغ- تموز 2020

عرض مقالات: