من الظواهر اللافتة للنظر والجديرة بالتأمل والتفكر والتي كشفت عنها انتفاضة تشرين الوثابة أن هناك وعياً جمعياً اتصف به العراقيون على تفاوت مستوياتهم واختلاف أجيالهم وتنوع أطيافهم، ويتمثل هذا الوعي في التلاحم الصميمي والعميق مع الإرث الرافديني العريق والموروث الإسلامي الخالد واللذين شكلا امتدادا تاريخيا تضافر فيه استحضار الماضي الذي تمثله سومر وبابل وأكد مع راهنية الحاضر الذي يمثله العراق. ومع هذا التضافر رؤية تتفاءل بغد عراقي زاه.

ولعل أدل شيء على هذا التلاحم الضمني مع التاريخ هو هذا الكم الكبير من اللافتات والبوسترات والملصقات والصور والرسومات والبورتريهات والتخطيطات التي تحفل بها ساحات بغداد وشوارعها ولاسيما ساحة التحرير وسوح الانتفاض الأخرى في سائر المحافظات العراقية الثائرة، فضلا عن التفاعل الافتراضي على شبكة الانترنيت وما فيها من العشرات إن لم نقل المئات من المنشورات والمدونات والتصاميم الرقمية التي لا تختلف عما تشهده الحياة الواقعية من تمازج بين الأزمنة انتفاضا وشموخا ووطنية.

ونظرة متفحصة في الدلالات التي تحملها تلك المنشورات الورقية منها والرقمية ستظهر أن هذا المزج ليس اعتباطيا وأنه نابع من تلاحم وطني جمعي تلقائي، به تتفاعل الفئات المختلفة متناسية اختلافاتها، مؤمنة أن الخير هو الذي سينتصر ولو بعد حين، وأن لا دوام للشر ما دمنا نقف مع الحق وننتصر للعدل، ثائرين على من ضيّع ثرواتنا وفرق شملنا واحتكر موارد بلادنا وسخرها ضد مصالحنا.

وليس أدل على ذلك التلاحم ما في اللافتات والمنشورات من تفاصيل دقيقة حواها المشهد العراقي الراهن المنتفض بساحة التحرير بدءا من حديقتها الشماء ( الأمة) ونصبها الشامخ( الحرية) والمطعم الذي صار رمزا، وانتهاء بجسرها المديد( الجمهورية) ..كل ذلك والتاريخ يُستدعى بمختلف رموزه وشخصياته ووقائعه صورا ومشاهد إسلامية ومسيحية جنبا إلى جنب تماثيل ومنحوتات بابلية واكدية وأشورية كمسلة حمورابي وأسد بابل والثور المجنح وبوابة عشتار وشارع الموكب وعربة القتال السومرية، تدليلا على المثل الوطنية الصادقة التي نعيش جذوتها اليوم في انتفاضة تتخذ من الرموز الدينية والرافدينية خير وسيلة بها توصل رسالتها، وتجسد عمق قيمها. وقد انداحت مندمجة بهيكل بناية المطعم اندماجا رمزيا ليطل على دجلة مثل أي صرح تاريخي يشهد أن الحاضر يستعيد الماضي كي يصنعا المستقبل الذي يعيش معنا كل آن وفي كل مكان.

ولطالما كان التاريخ جزءا من حياتنا يغوص في لا وعينا ويتجسد شاخصا في حياتنا خاصة في الأيام العصيبة التي علينا فيها أن ندفع التضحيات من أجل غدنا أو في اللحظات المصيرية التي علينا أن نختبر فيها مواقفنا ونحفظ كرامتنا. هكذا يعبر معبد الزقورة وقصر الحضر وقلعة أوروك عن عمق التلاحم الوطني بين مكونات الشعب العراقي. هذا التلاحم الذي أُريد له أن يخمد في دواخلنا كي ننساه أو ليغيب عن حياتنا، لكن بمجرد أن اُستفزت الروح العراقية وجاشت المشاعر وصدحت الحناجر، كانت الهمة قد اُستنهضت قوية من جديد وملتحمة تنبض كشاهد حي لا يوقفه موقف ولا يصده مصد.

وما نراه اليوم في ساحة التحرير عبارة عن مشهد دراماتيكي فيه زقورة أور تصافح جنبات المطعم مشكلة قوسي نصر مع ملوك بابل تحدوهما عربة القتال السومرية في هيأة عربة التكتك وعليها متظاهر عاري الصدر كأي فارس بابلي عليه أن يمسك العلم رمحا في يمينه والأضواء ترنو إليه أعمدة من مشاعل لا تنطفئ، وهو يغذ السير نحو موطنه الذي يريد أن يستعيده.

هكذا تتجلى لي مشهدية التظاهرة التشرينية سيماءً فكريةً فيها عبق التاريخ الذي حضر بلحم ودم موصلا الماضي بالحاضر وحافرا في ما فات وسُكت عنه، راسما صورة مستقبلية للآتي الذي فيه يتسامى العراق كيانا يعلو على كل انتماء بحس إنساني متجذر في صميم كل فرد عراقي.

وهذا درس جمالي راق ينبغي لكل أشكال الثقافة العراقية أن تجسده بحيوية وحرارة، وتتأمله بعمق فكري واجتماعي وسياسي. ولقد تأمل الجواهري بغداد وهي توشك على الغرق قبل قرن من الآن فقال قصيدته الرائعة(بغداد على الغرق) المنشورة في مجلة العرفان اللبنانية العدد 6 عام 1927 ص636 ـ 637 ، مستلهما الماضي في الجسر الأشم، ومما قاله:

سقى (الجسر) المطير من الغوادي         

فملقى اللهو واللذات جسر

هو البرج الذي كادت عليه

نجوم الافق ساجدة تخر

رأيت بأفقه شمسا وبدرا

كأحسن ما ترى شمس وبدر

وقفت عليه وقفة مستطير

من الأحزان ملء حشاه ذعر

ودجلة كالسجين بغى فرارا

وأزبد حتى أعوزه المفر

أتحت الماء غاصوا حين جازوا

عليه ام فويق الماء مروا

أحقا أن أم الخير منها

بعاصمة الرشيد يحيط شر

وتلكم حرة خيمت فجاشت

ويأبى الضيم والإذلال حر

أضاعوا ماءها هدرا وأخنى

على وطني أبي البركات فقر

تتابعت الخطوب على بلادي

فواحدة لواحدة تجر

 

وكذلك على الرواية العراقية التي واكبت ما رزح تحته الواقع العراقي من تراجيديات مهولة أن تكون السباقة في تمثل هذا التلاحم بصورته المشرفة والأصيلة.. وآن لها الآن أن تترجم هذا التلاحم التاريخي وما فيه من مأثرة هنا وتضحية هناك، باحثة في التاريخ عن صور لأجيال غابرة وأخرى قادمة، مجسدة تفاصيل كل يوم من أيام الوثبة التشرينية في التحرير وغيرها، راصدة حركة الفتيان وهرولة اليافعين ودبيب المسنين، ومسجلة مواقف المنادين بحقوقهم المسلوبة الصامدين بوجه المحن والرافضين هيمنة الأحزاب والفاسدين

وجدير بالرواية العراقية أن ترصد أيضا هذا الفعل البطولي الذي تؤديه نسوة وفتيات يصدحن بالحق صابرات ثائرات يساعدن إخوانهن مسعفات ومساعدات وطاعمات وكاسيات مشاركات ومنتفضات. يمددن إخوانهم بالعزيمة ويعلين فيهم الهمة ويؤازرنهم بالأهازيج حركة وقوة، بوعي جمعي فيه البدء النقي يتواصل مع الحاضر الآتي بعيدا عن كل أشكال التسييس.

إن على الثقافة العراقية تعزيز هذا الفعل البطولي وإظهار ما تخفيه الروح العراقية من عزائم قد تتوارى حينا لكنها لا تضمحل ولا تندثر وها هي تتجلى ساطعة متعالية على كل الممارسات بعد أن لفظت المحسوبيات وكرهت المنسوبيات وشهدت على شرور التحزب والإيديولوجيات.

فحضارتنا ليست غابرة أو مندثرة ذهبت مع الريح. أنها فينا متجذرة في أعماقنا لكن روتين الالتزام والامتثال والطاعة صلب شعورنا وجعلنا لا نرى حقيقة ذواتنا وما تملكه من امتداد عمقه أكثر من سبعة آلاف عام.

ما علينا فعله هو أن نستلهم الدرس البليغ العبر تاريخي الذي تقدمه لنا ساحة التحرير ومنتفضوها البواسل لنصمم على تغيير دواخلنا معترفين بسلبياتنا ومتوحدين من أجل عراق جديد سينهض بعيدا عن الديكتاتوريات والديمقراطيات الزائفة ولا يحتاج الى أية أدلجة، ولا يبتغي سوى الحرية والاستقلالية والعدالة التي تمنع من استغلال الثروات وتضمن حسن توزيع الخيرات، مع تعددية الانتماء والانفتاح في الفكر والحوار، صادحين كما صدح محمد مهدي البصير ( روحي فداك متى أكون فداكا).

عرض مقالات: