أعتقد إنّ الخلط بين الواقعية الاشتراكية (الأدب الاشتراكي)، ومن ثم البروليتاري، الذي يسعى إليه ( بوريس بورسوف ) ( * هامش / مصدر رقم 1 ) – وسوقت له الحقبة الستالينية برمتها – وبين المفهوم المجرد العام للواقعية كموقف ورؤية وأسلوب فني وأدبي كان قد حقق انجازات باهرة في القرن التاسع عشر [ فلوبير + بلزاك + إميل زولا + الكتاب الروس قبل ثورة أكتوبر، خاصة تولستوي .. الخ ] هو السبب في اختلال موازين الفهم وتداخلات المصطلحات.
ومع إنّ المُنظِّر الماركسي المشهور (أرنست فيشر) اقترح اطلاق تسمية (الفن الاشتراكي) في كتابه المجيد " ضرورة الفن " (* هامش / مصدر رقم 2 ) كبديل عن ما يسميه ( بورسوف والكُتاب السوفييت) الواقعية الاشتراكية، باعتبار إنّ كلمة أو صفة (الواقعية) واسعة الطيف وتشمل حتى الكثير من الآداب والفنون العالمية قبل نشوء المدارس التي تدعو إلى اتخاذ الاشتراكية كمنهج، وحتى قبل قيام الثورة البلشفية الروسية ونجاح الاشتراكية الاقتصادية كمنهج في الحكم والايديولوجيا في بلدان أخرى كالصين وكوبا وما كانت تسمى أقطار أوروبا الشرقية ..
غير أن (فيشر) نفسه يتساءل في كتابه المذكور أعلاه فيما إذا كان أسلوب ومنهج غوركي أم بريخت أم مايكوفسكي أم ايلوار هو الذي يمثل " الواقعية الاشتراكية " مع كل التباين في أدبهم على الرغم من وجود الموقف الأساسي المشترك بينهم، والذي يعدّه هو الأساس وليس الأسلوب.
ولذلك نرى إنّ الموقف من الحياة والمجتمع والواقع والتاريخ والرؤية المستقبلية هو الذي يحدد واقعية وإنسانية وتقدمية المبدع في الكلمة أو الفنون الجميلة وليس الأسلوب؛ أي ضرورة إطلاق يدّ وحرية المبدع في اختيار الأسلوب الذي يناسب موقفه!
وبهذا تتعدد ضفاف الواقعية ووسائل التعبير عن حرية المبدع في خلق أدب إنساني ليس بالضرورة أن يكون محددا بطبقة أو فئة أو مرحلة، أو مرددٍ لكليشيهات سياسية وأدبية مستهلكة.
وهكذا فإن طبيعة الرؤية لهذه الواقعية هي التي تحدد مفاهيم النقد الأدبي المعاصر؛ وفيما إذا كان هذا النقد مع المياه الجديدة في واقع متحرك – ومع توسيع ضفاف نهر الواقعية – أم العكس؟!
هل يمكن للإنسان المبدع الواقعي أن يقوم بتحوير الواقع الذي يصوره، كما كان يفعل دستويفسكي لأغراض وأهداف أيديولوجية، مع بقائه واقعياً أصيلاُ ؟! أجاب (بورسوف) على هذا السؤال بنعم، وأكده في صفحة (69) من كتابه المذكور سابقا.
اختلاف زوايا النظر والرؤية لمفهوم الواقعية، فضلا عن تعدد مدارسها بدءاً من القرن التاسع عشر، ومروراً بالواقعية النقدية، ثم الواقعية الاشتراكية لاسيّما الفترة السوفيتية [غوركي + شولوخوف + كُتّاب الجمهوريات القومية وعلى رأسهم " جنكيز أيتماتوف " ورسول حمزاتوف ... ] كل هذه الأمور تدفعنا الى طرح سؤال كهذا: الواقعية الاشتراكية موقف أم أسلوب فني؟ إذ أن الجميع يستمد مادته الأساس من الواقع عامة، والواقع الاجتماعي على وجه التحديد والخصوص.
من هذا المنطلق نرى أن اهتمامات المبدع الواقعي الخلاّق ليس مجرد النظر إلى الواقع بكل تناقضاته واشكالاته الحياتية والفكرية على حدّ سواء، وليس مجرد الاستعارة من هذا الواقع وعكسه على نحو ما أو محاكاته والتطابق معه فقط .. بل والعمل على خلق سبل وطرائق فنية مبتكرة وجديدة تحبب إلى نفس المتلقي عملية الحث على تغيير هذا الواقع نحو الأفضل، وذلك من خلال التمسك بالقيّم الإنسانية السامية لاسيّما فضيلة الحب والثقة بمستقبل الإنسانية الوضاء، وما إلى ذلك من أمور معنوية إيجابية عالية تفضي في نهاية المطاف إلى خلق تراكمات كمية في مستوى الوعي والعاطفة الإنسانيين وتؤدي إلى تغير نوعي نحو الأحسن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب عراقي مستقل مقيم في سورية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والهوامش
1- بوريس بورسوف (الواقعية اليوم وأبداً)، منشورات وزارة الإعلام العراقية عام 1974م، سلسلة الكتب المترجمة رقم (19).
2– أرنست فيشر (ضرورة الفن) طبعته الأولى كانت عن دار الحقيقة البيروتية، والأخرى عن اتحاد الكتاب العرب، ويمكن العودة في هذا الشأن أيضاً الى صفحة 133 من كتاب د. محمد الباردي: انشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة / اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2000م .

عرض مقالات: