يمتلك الباحث ياسين النصير المساحات المعرفية، والخبرة النقدية، والذائقة الفنية التي تمكّنه من خوض غمار إثبات نشأة وظهور ما أَطلق عليه «الحركة الثانية لقصيدة الحداثة العربية». فبعد كتبه العديدة، ما تخفيه القراءة (2007)، الرواية والمكان (2010)، أسئلة الحداثة في المسرح (2012)، الحروفية والحداثة المقيدة (2015)، الشعرية المكانية (2018)، ها هو يجهد في كتابه الحالي للتنظير، وتحديد خصائص حركة جديدة في القصيدة العربية، يتطلب التطرق إليها والجدل فيها المعرفة الدقيقة والواسعة بمجالات معرفية ونقدية متنوعة وعديدة. لكن نجاحه في تحقيق غايته من هذا الكتاب، المؤلف من 500 صفحة، سيعود على الثقافة العربية بنظرية متكاملة في علم الجمال، وفي النقد الأدبي، وفي علوم السرد والفلسفة.
في ستينات القرن الماضي، ظهرت القصيدة الحرة أو قصيدة النثر مع أدونيس، وتم الدمج بين فن الشعر وفن القصة مع محمد الماغوط وزكريا تامر وعبد الوهاب البياتي، وبرزت بواكير قصيدة اليومي والمألوف مع سعدي يوسف، وظهر أسلوب النثر المركز مع حسين مردان.
يرى ياسين النصير أن بيان العدد الأول من مجلة شعر عام 1969 حمل مؤشراً واضحاً على تحوُّل طرأ على القصيدة العربية. ورغم أن هذه التحولات بدأت أبكر من هذا البيان، حيث كشف محمود البريكان سابقاً عمق البعد الفلسفي في الشعرية الحديثة، وتعمَّقَ بإنجاز سعدي يوسف في تعامله مع المفردة اليومية والمألوفة في قصيدة «51 قصيدة»، إلا أن النصير يعتبر أن بيان مجلة شعر 69 كان باكورة نقدية ممنهجة رغم الاعتراضات المهمة عليه، ليسجل عنده منعطف الحركة الثانية للقصيدة الحديثة.
شعراء بيان الـ 69 كانوا ثلاثة: سامي مهدي، وفاضل العزاوي، وفوزي كريم. ونجد تحولات هؤلاء الشعراء الثلاثة كمؤشر على اتجاهات الحركة الشعرية الثانية، حيث بدأها فاضل العزاوي بالقصيدة الكونكريتية لينتهي بنثرية روائية متميزة، وجاورها فوزي كريم بنثرية شعرية عمّقت جوانب مهمة من قصيدته، خاصة الذاتية، لتصبح نثريته توازي شعريته، واستقر سامي مهدي على القصيدة الغنائية الدرامية معمّقاً تحولاتها بالعودة إلى اليومي والمألوف والأفول وحركة الواقع. لتتسع الحركة لاحقاً في نتاج شعراء مهمين مثل كريم كاصد ومهدي محمد علي وحسين عبد اللطيف وآخرين.
بعد هذا المخاض العسير للشعرية، ومرورها بوديان وتعرّجات فكرية وأسلوبية، كانت النقلة بظهور أنواع شعرية متعددة، منها قصيدة النثر، وقصيدة الرؤية، وقصيدة اليومي والمألوف، والقصيدة الدرامية، وغيرها من حركات التجديد، التي لم تعتمد كما في الحركة الأولى للحداثة على الإيقاع وحده، فقد أزاحت المفاهيم النقدية السابقة للحركة الأولى للحداثة الشعرية، واستبدلتها برؤية شعرية نقدية جديدة.
يؤكد الكاتب على تداخل الأنواع التعبيرية، واتساع الأفق المعرفي والتشكيلي للحركة الثانية للقصيدة الحديثة، وهي التي سمحت بوجود إمكانيات لاستيعاب الأحداث والأفكار من خارج البناء الإيديولوجي والمعرفي. في هذا الإطار، يكتب المؤلف: «الحركة الثانية من القصيدة الحديثة من السعة والتنوع بحيث لا يمكن قياسها بتوصيف نقدي ما لم يُعَد تركيبها عبر تداخل الميثيولوجي بالحداثي، بعلاقتهما بالطبيعي والفكري وتطور المجتمعات. لذلك نحاول هنا تطبيق رؤيتنا النقدية على نمط من الشعرية الحديثة، انطلق من رحم الحركة الأولى، وتمرَّد عليها. محاولتنا هذه لا تدعي إلا البدء في هذا الطريق النقدي الصعب والشائك، فالبحث عن خصوصية الحركة الثانية في الحداثة الشعرية ليست هينة، ولا هي رغبة ناقد تلمس خصوصيتها في قصائد بعض الشعراء».
والآن بعد أن بيّن المؤلف المجرى التاريخي لتشكل قصيدة الحداثة العربية الثاني، يبدأ بمقاربة الخصائص الشعرية والفنية المميزة لهذه الحركة.
يصف النصير بدايةً قصيدة الحداثة الأولى، التي تبتدئ صورها من الواقع ثم الذات الشاعرة، ثم المخيلة الشعرية، ومن ثم العودة بالمحتوى إلى الواقع ثانيةً. قصيدة الحداثة الأولى هي رؤية إيديولوجية لما يجري، بمعنى أنها تبتدئ بالكلام لتؤسس خطاباً ثم لتصبح كتابة، هذه الطريقة تقليدية لا تختلف فيها عن أية تركيبة نصية.
أما قصيدة الحداثة الثانية، فهي تبتدئ بالواقع، لكن ذلك الواقع المشحون بخيال المادة، تمزجه بخيال الشاعر لتأليف وحدة كونية للرؤية، من أجل خلق نص لا يعود إلى الواقع بقدر ما يؤشر إليه، فيبقى أثر القصيدة غير مرحلي ولا محدد بقضية معينة، وفي الوقت نفسه تمتلك قصيدة الحداثة الثانية احتمالية تأويلية منفتحة.
قصيدة حركة الحداثة الثانية لا تكتفي بإدراك العالم، بل تسعى الى إعادة إبداعه وصياغته من جديد، فالمادة عندما يكتشف خيالها، تتحول إلى تكوين حي، لا يخلق صوراً تحاكي الوقائع، بل يخلق الواقع نفسه في الصور الشعرية.
اما قصيدة الحداثة الثانية، فهي ما يطلق عليه ياسين النصير اسم «فلسفة المرآة»، أي قدرة القصيدة على المزج بين الوعي واللاوعي، الواقع واللاواقع، الطبيعة والأقنعة، لأن اللغة الشعرية ليست مفردات وكلمات فحسب، وإنما هي تكوينات تؤسس مسكناً للصور. فقد تكون اللغة تشكيلية، أو فوتوغرافية، أو أبجدية، أو مكانية، فالقصيدة هي «كتلة من الصور» وليست كتلة من الكلمات.
ولذلك تشترط هذه القصيدة المعرفة الذاتية للحقائق الموضوعية، فلا بد للذات من أن تجرب بنفسها الوقائع وتختبرها وتدقق فيها، فليس الشعر معلومات أرشيفية ولا هو أقوال وأفعال للآخرين. الشعر طاقة يولدها الشاعر عبر تجربة خاصة به. فالخبرة تسند العقل والتجربة، والشعرية قوانين وخبرة وإن كانت خيالاً. فلا تجربة دون نظرية ولا نظرية دون تجريب.
مع قصيدة الحداثة الثانية، لم تعد الشعرية مجرد تدفّقات للمعاني والصور دون اختبار، بل أصبحت الشعرية مجموعة من المُدرَكات والتجارب التي تميز ذاتية الشاعر، وهذا يعني أن على الشاعر مسؤولية خلق تصور عن العالم عبر اللغة. ويعني أيضاً أن المسؤولية الشعرية ليست جمالية بل اجتماعية وفكرية وسياسية أيضاً، ولكن بطريقة لا يفهم منها أنها إيديولوجية.
ويرى النصير أن قصيدة الحداثة الثانية أتاحت مشاركة فاعلة للقارئ، فالقصيدة لا تقدم الحلول كاملة ولا موضوعها مكتملاً. وفي هذا الخصوص يكتب: «الشعرية دائماً حقل ناقص لا يكمله إلا القارئ، ومن هنا اتسعت مسؤولية القصيدة وهي تجمع في بنيتها بين مؤلف وقارئ».
يجعل النصير من الشعرية مرادفاً للقراءة. فكل قراءة لعمل فني أو تأويل هو نوع من أنواع الشعرية. فيكتب في هذا الخصوص: «بتعدد القراءات تتعدد طرق تلقي القصيدة، أي شعريتها»، ويستشهد بجملة لتزفيتان تودوروف: «الشعرية هي مقاربة للأدب مجردة وباطنية في الآن نفسه».
اذن، الشعرية لا تقف عند البُنى المضمرة في الشعر فقط، بل تشمل النتاج الثقافي كله، وبناءً على ذلك فالشعرية تحمل في أحشائها أبعاداً سياسية واقتصادية وثقافية ومكانية وميثيولوجية وسوسيولوجية وسايكولوجية.
ويتطرق النصير إلى انتشار الشعر والإقبال عليه في الفترة الحالية، فيستشهد بما كتبه الفرنسي جاك روبو: «على مستوى الانتشار لم نجد ديواناً شعرياً تكررت طبعاته، ولم نجد شاعراً يفوز منذ سنوات بجائزة نوبل، بل إن معظم الفائزين من الروائيين، وإذا نظرنا الى الظاهرة على مستوى أعمق لا نجد أحداً يشتري الشعر».
يعتقد الكاتب ياسين النصير أن الكثير من القرّاء استغنَوا عن قراءة الشعر عندما وجدوا أن ما يسعى إليه الشعراء عبر اللغة متوافر عبر وسائط أخرى، مثل العمارة، والتنظيم المديني، وفي الإعلانات، وفي الصحافة والتلفزيون والإنترنت. يكتب متسائلاً: «فلماذا يذهب المرء الى القراءة ما دام يحصل على الفكرة والرؤية عبر أدوات حسية ومباشرة وشعبية؟ أسئلة كثيرة مثل هذه تثار عن جدوى الشعر في الحياة اليومية للناس».
بالمقابل، يرى النصير أن التقنيات الحديثة، وخاصة الإنترنت، ساعدت على ظهور حركات شبابية سياسية بإيديولوجيا جديدة، كما حدث في العالم العربي راهناً، وكذلك ساعدت التقنيات الحديثة والإنترنت على انتشار الشعر، فأصبحت القصيدة وثيقة يمكن تداولها دون دفع ثمنها، مثلما كان الأمر سابقاً مع طريقة البيع عبر سوق الكتاب، وتراجعت الوسائط التقليدية لتلقّي الشعر لصالح وسائط جديدة. ويختم المؤلف ياسين النصير بالتأكيد على أن «الشعر ما يزال حتى اليوم جزءاً مهماً من البنية الحضارية لما بعد الحداثة». هذه الدراسة تعيد مجدداً أهمية التنظير، والتفكير النقدي، والتذوق الفني للقصيدة العربية الراهنة.

عرض مقالات: