تطورت آليات البحث عن الجديد وتعددت الوسائل في ضوء التراكمات التي تنظر الى الواقع وتحاول تفسيره، وظهرت بعض الأطر التعبيرية الأخر في الرسموية العراقية وباتت تجد لها مفهومات أخر تنتمي الى الصياغة الجمالية وتتخذ من المعنى الانساني العام أساسا لتلك الصياغات ، فكانت محاولات (كاظم حيدر) تصب في هذا الاتجاه حين صاغ ملحمته البصرية في ستينيات القرن العشرين وانتخب لها اسما يتجاوز حدود المكان (ملحمة الشهيد)، ولكنه اتخذ من حادثة عراقية محلية تبئيرا فلسفيا لمعنى الشهادة والبطولة ، ولهذا فإن الرمز الشرقي (الحسين ع) وواقعة الطف في كربلاء هي تمثلات الخلود الأبدي لفكرة الشهادة المرادفة لمعنى البطولة والتضحية وتثوير موضوعة الشهادة والبطولة بفضائها الانساني وتحويل الخطاب من الخاص الى العام ، بحيث يحاول تصوير الواقعة دون إهمال ذاكرة المتلقي وانفعالاته ، فالحسين والشمر وزينب والطفل الرضيع كلها مفردات قابعة في الذاكرة الجمعية ولها محمولاتها الدلالية التي تنم عن ثقافة شعبية تتداخل مع ما هو ديني في انتاج الدلالة ومعناها الكامن في الشكل المرئي هذا الفضاء الإيهامين المتصور يرسمه ويكونه المتلقي لا للتطهير عبره ، كي يبكي كما يفعل البسطاء ، بل ليعيد تشكيله في المخيلة ،بوصفه فضاء ممكنا تحققه ثقافيا عبر ايديولوجية الشهادة ، فالنص في اللوحة ليس نتاج الفنان ، بل هو نتاج لعوامل كثيرة، للتواريخ وللأزمنة وللأمكنة وللشعوب وللثقافات وللجغرافيات كل هذه المرجعيات تتألف منها ثقافة اللوحة.
ولعل مجموعة الثقافات والتواريخ والأمكنة، فضلا عن الأيديولوجيات هي التي دفعت الفنان فيصل لعيبي للبحث عن الذات العراقية ، بوصفها ذاته التي حاصرتها آلة القمع السياسي ،فعلى الرغم من هجرته خارج الوطن ، إلا أنه ظل يتمسك بأمكنته المحددة ويستدرجها الى أعماله الفنية ويحولها الى علامات لها حضورها الأيقوني أو الرمزي داخل الوعي الجمعي العراقي ، فتعد صور (الجواهري والبياتي ورشدي العامل وبلند الحيدري) علامات لها حضورها داخل الثقافة العراقية واخذت تشير الى النفي الذي مارسته السلطة على تلك الأسماء وبالتالي هي صورة للوطن المحتج ، فضلا عن تكريسه موضوعات عن (الجسر المعلق، جوامع بغداد، الصحن الكاظمي، حلبجة) ولعله يحمل هذه الأمكنة من خلال مبدأ التصاحبية الذي تحدث عنه (هيدجر) في معرض تحليله أعمال (فان كوخ) الممثلة في عمله (احذية قديمة بأربطة) ، والتجليات الأثيرة التي جعلت من هذه الأمكنة تستبدل في الوعي من أمكنة لها حضورها الواقعي الى أمكنة تتداخل فيها بنيتي الزمان والمكان في لحظة تاريخية واحدة تؤشرها بعض الاشارات المرافقة أو المرتبطة بها مثل (كف العباس ، كربلاء ، الاله العراقي) وغيرها والتي تمظهرت في لوحته المرسومة لتكون الفضاء العراقي من دون منازع له محمولاته الكامنة في ضمير الأغلبية ، بوصفه يمثل الاحتجاج والرفض لعناوين القهر السياسي، وأن نزوعه المحلي وتشبثه بجذره الواقعي دعاه الى المزاوجة بين الملفوظ اللساني وتمثله العياني في احتفائه بالمدن، وكانت خطوطه الصورية بمثابة ندوب على خارطة الوطن وبوابات المدن التي حفرت موقعها في ذاكرته في تكوينات (البصرة، بغداد، الكوفة، بابل، سومر) واشارة الى جدل العلاقة بين الارث الحضاري بمحمولاته الفنية والفكرية ومديات التعالق مع الحاضر بفعله الثقافي والرمزي، وهي مناجاة واغتراب لاجتلاب التاريخ من ألقه المضيء الى عتمة الحاضر التي تلف مشاهد مدنه المحببة ، جاعلا من التزويقي والزخرفي أساسا في تقنيات اظهار اللوحة .
بيد أن أحداث ما بعد 2003 والتحولات الكبرى في البنى الاجتماعية والثقافية ، أفرزت وجهة نظر جديدة على صعيد الآداب والفنون قائمة على رفض معطيات المرحلة السابقة والاحتجاج عليها والتهكم منها ، اذ أقام بعض الفنانين معرضا للمقابر الجماعية التي ظهرت في المرحلة ذاتها ، وهو احتجاج ورفض تلك الممارسات وإدانتها بقوة ، تلك التي تمارس ضد الذات الانسانية وكان تمثيل هذه الواقعة بشكل مباشر وواقعي يعكس المحاولات السابقة التي كانت تلجأ الى التشفير والترميز للتهرب من سلطة الرقيب آنذاك ، وكانت تجارب ( محمد مسير ، أسعد الصغير) جزءا من هذه التطلعات التي حولت الرفض والاحتجاج على الممارسة القمعية الى خطاب جمالي يمتلك أدواته الفنية ومرجعياته الفكرية ، فضلا عن استمرار المحاولات اللاحقة في تبنيها بتوظيف المهمل وشظايا العجلات المفخخة في الخطاب الفني يحمل في جوهره ادانة واحتجاجا يصل الى اقصى درجات الرفض للواقع المأسوي كما جسدته اعمال محمد القاسم وآخرين .

عرض مقالات: