أن أي رصد لعلاقة التشكيل بمفهوم الاحتجاج يقتضي تفكيك المصطلحات التي تمثل متغيرات البحث من خلال المقاربة النقدية بدءا من مفهوم الاحتجاج الذي يعني (اعتراض، استنكار، واعلان رفض ومقاومة)،بمعنى الرفض لمبدأ أو قضية بأساليب سلمية تتخذ أشكالا مختلفة في التعاطي مع المفهوم، وهذا يتصل بالقناعات أو اليقينيات التي يحملها المحتج، ويعني أيضا " التعبير عن الرفض والاستنكار ضد أفعال او سياسات أو أوضاع معينة أما بالقول أو الفعل، ويمكن أن يتخذ الاحتجاج أشكالا مختلفة فردية أو جماعية، وتطورت أشكال الاحتجاج ونمت على امتداد العمق الحضاري الانساني لتتخذ شكلا يتناسب مع ما تسمح به القوانين النافذة والظروف المحيطة " فضلا عن اشكالية الهوية في الفن التي تتوزع بين التأصيل والتوطين، إذ أن مصطلح الهوية يستخدم في علم الاجتماع لوصف مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته مع الجماعات (كالهوية الوطنية والهوية الثقافية) بيد أن التأصيل ناتج عن الابتكار والابداع وعدم الركون الى مقدمات سابقة في التأثير على صياغة هذا الخطاب وهذه الهوية . أما التوطين فيعرف " على أنه تكييف منتج أو تطبيق أو محتوى أو ملف مع لغة وثقافة ومتطلبات أخرى لجمهور معين، كما يطلق أيضا على هذه العملية مصطلح التحلية أو محلي، ويشير الى النصوص والرسومات التي تعبر عن كائنات أو أنشطة أو مفاهيم" فيعني ظلال الهوية التي يتسم بها الفن من خلال ملامح البيئة المحلية وموجوداتها أو النابعة من الجذر التاريخي الفكري أو الجمالي. وهنا يمكن مزاوجة أساليب ورؤى مختلفة تنتهي بالمحصلة النهائية الى توطين هوية للفن ترسم سماته وخصائصه التي يحملها وتشير اليه دون غيره ارتباطا ببنيتي الزمان والمكان مثلما حدث لعدد كبير من علامات الفن العراقي الحديث الممثلة في حفريات الجماعات الفنية العراقية وبحثها الجمالي في الاصول الذي بدأ في النصف الثاني من القرن العشرين أو الفعاليات الفردية التي أثرت الظاهرة الجمالية العراقية على صعيد النحت أو الرسموية العراقية، تلك التي أنجزها كاظم حيدر وصالح القره غولي ومحمود صبري وغيرهم. أما فعل الجماعات فكان أثره واضحا في سياق البحث عن الهوية وتكريسها ممثلا بما أنجزته جماعة بغداد للفن الحديث عام 1951م وتجسد بفاعلية جواد سليم قائد الجماعة وعرابها وشواهده الجمالية الممثلة بالأعمال النحتية (نصب الحرية، السجين السياسي، الامومة) على صعيد النحت ورسوماته الموسومة (البغداديات) وابرزها الشجرة القتيلة التي تتسق مع محمولاته الفكرية أزاء الصراع الطبقي العراقي آنذاك، فضلا عن نزوع جماعة البعد الواحد أو (الحروفيين) الى إيجاد مسارات أخرى لتكريس الهوية تنطلق من الموروث الشرقي والاسلامي وبنية الحرف العربي الجمالية ووضعها ضمن نسق اللوحة المعاصرة المرسومة ايحاء بالدلالة والمعنى المضمر في تلك البنية، وصولا الى تمثلات جمالية اخرى مفارقة في اللحظة والمرجع الفكري ما بعد الحداثي الراهن لتنتج فنا كرافيتيا يتساوق مع الفعل الجماهيري في ساحات الاحتجاج العراقية والمناطق القريبة منها ليمتد الى مدن اخرى تتجاوز المركز وتلتحم في الاطراف او (الهوامش) من خلال فعالية تنسيقية بين الاثنين حتى وأن كان بعضها عفويا ولا ينتمي الى محركات هذا المدار الجمالي .
لقد شكل مفهوم التمرد على السياقات والأساليب الفنية او تبني مفهوم الاحتجاج على الصعيدين الاجتماعي والسياسي محورا مهما في صياغة خطابات أو اتجاهات تضاف الى اتجاهات الفنون وحركتها ضمن السياق الزمني والحتميات التاريخية التي تفرضها اللحظة. وبعيدا عن العمق التاريخي الذي تشي به النماذج الفنية فإن الفن الأوربي الحديث بدأ بمفهوم احتجاجي حين تمرد أقطاب هذا الفن وطلائعه الشبابية آنذاك على الذائقة الفنية والجمالية التي عاشها الانسان الاوربي مئات السنين وتربت ذائقته على نمط سائد من الفنون، عندما أقدمت مجموعة من الفنانين الشباب آنذاك على عرض أعمال في حقلي الرسم والنحت تختلف كليا في الانشاء والمرجع الفكري عن الأنماط السابقة والمألوفة، وعدت من بوادر الانقلاب على جوهر النتاج الفني عن الموضوعي الذي يتخذ من الدين والسياق التاريخي للنوع الفني أساسا في الصياغات المتأخرة الى الذاتي بكامل محمولات هذا المفهوم، حتى أضحت تلك الأعمال هي الميزة التي اتسم بها هذا الفن ، ولكن العنف الذي مارسته السلطات الفنية والذائقية برفض الأعمال وتسميتها بعد عرضها (بالمرفوضات)، شكل بذرة الاحتجاج والتمرد لدى هؤلاء الفنانين لتصبح أعمالهم فيما بعد العمود الفقري للفن الحديث بمجمله.
وبعد تطور الأداء وتعمق تجربة الفنانين المحدثين اتضحت الدلالة في فضائها التداولي على صعيد الأبعاد (الاجتماعية والسياسية والثقافية) بشكل أكثر وضوحا. ولعل تجربة (فان كوخ) في رسمه أحذية الفلاحة (أحذية قديمة بأربطة) في ضوء ما أسماه (هيدجر) بالمصاحبة ليشكل علامة تحتفظ بفضائها المرجعي الاجتماعي الناتج عن عمق الأسى الذي عاشه كوخ، وأن هذه الأحذية الممزقة هي أحذية الفنان وليس الفلاحة، لأن الفنان يصاحب عمله لأحذيته الخاصة، فعندما يعرض هيدجر لزوج الأحذية القروية في لوحة فان كوخ، انما يستحضر العالم الذي يكشفه زوج الأحذية، ويصف المعنى المتضمن في اللوحة، المعنى الذي يفتح وضوحا يكشف عن عالم ويضع أفقا له.
ومن صميم هذا الفن وليس بعيدا عنه كان مفهوم الاحتجاج يفعل فعله الواضح ضمن الاطار الآخر الذي ينتمي الى الاحتجاج السياسي عندما كان (بيكاسو) يدين ويحتج على ما فعلته أدوات الحكومات الفاشستية الممثلة في الطائرات الألمانية والقوات الحكومية التي قتلت أبناء قريته (الجورنيكا) ليحتج بطريقته الخاصة على مفهوم السلطة وتعنيف الذات واساليب القمع والموت وينتج ملحمته الخالدة التي أسماها (الجورنيكا) (شكل 1) تيمنا بقريته من أجل الانتصار للذات الانسانية في هذه اللحظة الزمكانية محملا ذلك مجموعة من المرموزات التي تحركت نحو بنية جمالية استقامت بالحذف والاضافة وتعميق المفهوم لتصل في النهاية الى ما وصلت به الينا.
وتعاملت الدادائية مع المهمل واليومي كجزء من ثقافة الحرب وادانتها أو هي سلطة الخارج الموضوعي التي تداخلت فيها صيغ الرفض والتمرد والاحتجاج على القوانين والأعراف السائدة، والموقف العدائي للمجتمع البرجوازي الحديث وواقعه السياسي وتقاليده الموروثة في المجالات الثقافية والأخلاقية، ولذلك فإن رفض العرف يشكل حقلا سيميائيا مرتبطا بثقافة معينة تعادل تكريس العنف، ولأن الدادائية أداة رفض واستهجان لما آلت اليه الحرب العالمية الأولى،فإن صداها ما زال ماثلا في الأزمات والحروب التي يوظفها الفن من خلال المتروكات ومخلفات الحروب والتي انتهت بفكرة (مارسيل دوشامب) للشيء الجاهز من خلال عمله (النافورة) التي مثلت خلاصة التهكم والاستهجان من افرازات المعطى الواقعي القائم على قمع الذات الانسانية وتقويض فاعليتها بالفقر والموت .
وعلى الرغم من الفترة الزمنية المحدودة التي نشأ فيها التشكيل العراقي الحديث مقارنة بالتراكمات البصرية للفنون العالمية، نبين عدم الركون الى مقاربات اجتماعية أو سياسية القت بظلالها على التشكيل العراقي، فلقد كانت أولى النواة في هذا الخطاب انسجامها مع التطلعات في الحياة العراقية ومحاولتها الاندماج مع هذا الهدف، فجاءت الجماعات الفنية الأولى وطلائعها الساعية للتحديث والبحث عن الهويات لتضع الفن في مساره الصحيح الذي يرتبط بالمتغيرات الخارجية نازعة نحو تشييد ظلال هوية لهذا الفن الجديد أو توطينها من خلال المقاربات القديمة والحداثية،بما يعانق طويلا ما حملته الروح الرافدينية القديمة من سمات جمالية مع أثر طروحات الحداثة الواضح عليها . فبدأ مبدأ الرفض والتمرد على الصياغات الاسلوبية والتشكيك فيها والتي عمل عليها فنانون رواد على مستوى التمثل التعبيري والعمل على محاكاة الواقع والطبيعة، وصولا الى أكثر الحلقات تمردا واحتجاجا في ( جماعة بغداد للفن الحديث) ورؤى (جواد سليم) وتطلعاته الجمالية التي تكرست في (نصب الحرية) (شكل2) الذي يرمز الى صراع الشعب العراقي نحو الحرية أو نزوعه الى التحرر مرورا بكل هذه الحقب الزمنية وصياغة خطابه الجمالي المنتج للعديد من القراءات التأويلية، بوصفه بديلا عن الاستعباد، أي أنه يمثل وثبة للفن العراقي في الاتجاه الصحيح، ولعل المصادفات السعيدة ظلت تلاحقه فترة التشكيل هذه ثم تفجير مراجعاته الاسلوبية تجانسا مع مخيلة حالم يريد أن يرى صورة لبغداد في مرآة خيبته لتنعكس بهيأة وثبة لجيل ذاق مرارة الانقلابات السياسية وأصناف الغزو، راغبا في ترصين نزعته الوطنية، وتفعيل مبدأ التناص بين الماضي والحاضر في محاولة تجمع بين الواقعي والمتخيل لما يجب أن يكون عليه الحال، بوصفه نبوءة مقبلة أو مستقبلية ممكن أن نجد مقارباتها الآن في مظاهر الاحتجاج السلمي الجماهيري تحت النصب نفسه في ضوء تماثل مقاطع الإفريز النحتي البارز مع مقاطع حياتية مصورة من الواقع الفعلي للمحتجين، بعكس نبوءات العرافين الذين يرون في هذا النصب نذير شؤم، وبمخالفة قول العرافين نجد أنه نذير شؤم للرابضين على مقاليد السلطة ومقدرات الشعب . وهكذا ارتبطت محاولات تقويض النصب بهذا المعنى الكامن في الضمير الجمعي، بمعنى أن النسق الظاهري يردد مقولات السلطة بينما يتفق النسق المضمر على مخالفة هذا الرأي ويجد فيه اشارة لمعنى الحرية والتضحية من أجل الأهداف النبيلة والسامية، فضلا عن دراسة جواد للتراث الفني العراقي القديم، لذلك اوجد مقارباته في هذا السطر الكتابي مع المسلات العراقية القديمة في سومر واشور التي كانت توثق مشاهد مصورة للأحداث وسجل الانتصارات الأخرى في الحروب على الدويلات المجاورة.

عرض مقالات: