الدهشة واحدة من عوامل التأثير المرحّل من المكان إلى الذات الإنسانية. والشاعر (حسام السراي) في ديوانه "حي السماوات السبع" أغوته الدهشة هذه، لكنها لم تنتج عبر شعريته نوعاً من الارتباك، فهي دهشة قادرة على حفظ التوازن الشعري. وكما ذكر (فاضل العزاوي) في التظهير؛ فإن الكتابة عن المُدن مارسها كتّاب وشعراء كثر، وهم يدخلون مدناً أول مرة، والشاعر (حسام) واحد من هؤلاء. غير أن دخوله أحدث مقارنة بين مكانين بسبب ما تعرضا اليه من ويلات الموت الأسود، فنيويورك وهجمات مجمع التجارة العالمي، الذي أطفأ الفعل الأسود جهود عشرين سنة من التفكير والهندسة والمعمار، والكرادة في بغداد، المدينة العريقة في كل شيء،تتحول إلى محرقة كبرى، تنصهر داخلها الأجساد دون أمل في فسحة ولو ثقب للنفاذ إلى الخارج. إن الموت في كلا الهجمتين منظور إليه من قبل الإنسان. وتلك هي المأساة التي عمل الشاعر على تدوينها، وبها افترق عن الآخرين. إنه يحمل حساً شعرياً شرقياً، تربى على الإدراك والحس المرهف. لقد حدثت المقارنة في أدق تفاصيلها. ليس لأنه يمتلك حساً شعرياً فحسب، بل مضاف إليه كونه إنسان ترعرع في حضن الأُم، فألهمته الرهافة والتأثير المباشر والحسي. إن ديوان (حي السماوات السبع) اشتقاق مكاني صرف. فالحي دال على فرض صلاة كما يبدو مباشرة، فهو كذلك، ودال على المكان، ويعني به الطابق السابع من عمارة في نيويورك. لكننا نتمسك بالدلالة الأولى، لمعرفتنا بانحدار الشاعر بيئياً. كذلك مدركين حسه الشعري في وإزاء المكان.. فالذي أنتجته دهشة الدخول إلى نيويورك، ومداهمة حدث المجمع، ومحمولات بغداد؛ هي ملحمة شعرية، تمسكت بدراما الشعر دون ضجيج لغة وانقياد إلى البعيد عن اللغة الشعرية، وفجاجة وإطناب الكلام.فهو بالتالي لا يقدم سيرة مدينة مستوحاة من ظاهرة استثنائية، وإنما قدم سيرة ذاتية ذات محمولات لا تقل فجيعة عن الأُخرى. فهولا يقارن بينهما، بل يستعرض قوة المأساة والتراجيديا الناتجة عنهما، وحصراً عن ظاهرة الكرادة، التي هي حاملة لقسوة النفس البشرية. التي غلفتها بالدين، حالها حال ما شهده التاريخ من أحداث دامية، كانت ذريعتها الدين.لقد حاول الشاعر أن يُمسك بمشاعره، ويطلق العنان لشعريته الهادئة، كي ما تتداول حجم المآسي التي يتعرض اليها الإنسان في كل زمان ومكان.

اشتغال الشعر

لعل ما يؤشَر على القصيدة الطويلة هذه ؛إنها انشغلت بما هو أكثر حساً وجمالية وعقلانية. ونقصد بالعقلانية التي ربما تكون بعيدة عن الشعر ؛ لكن الامساك بما يُثير الانفعال، وتراخي اللغة الشعرية، كي تفسح المجال لتمرير الأهم من المشهد الحياتي أوصل القصيدة إلى ما وصلت إليه من حبكة سردية شعرية. إن التراخي إزاء اللغة الشعرية، يعني تقديم صورة أكثر واقعية، وحاملة لمزيد من التأثير. وعلى وفق ما ذكر (العزاوي)؛ من أنه (تجنب الوقوع في فخ الانطباعية السياحية)،بمعنى كان أكثر انضباطاً وهو يصوغ سيرته وسيرة المدينتين (بغداد، نيويورك)، وما تعرضتا إليه من فواجع. إن استرخاء وانسيابية اللغة، وفّر للقصيدة فضاءها الشعري المشبع بالتأمل والشعرية الخالصة.ففي وصفه زمن وحالة الجلوس في الطائرة. لم يترك اللغة على أن تكون واصفة لكل عوامل الانتظار، وإنما نقل الفضاء الأوسع :

(في ثلاث عشرة ساعة من التراخي والتقلب بين الأرض والجوّ)

ولم يقل مثالاً جملاً او تعكس الملل. بل أنه ذهب بالتعبير الشعري إلى مدى آخر. كما أنه ساير متن فكره المشبع بالاعتدال المنطقي، فكان عكسه لما يتداول أكثر منطقية:

(وأوراقك بيد شرطية جوازات من أفريقيا،

  لا حدود للعقل كي يمتحن الألوان،

  من يحمل منها وسام الأكثرية؟

أو يرفع لواء الأقلية؟!)

ولعل علامات السؤال والتعجب المتكررة ؛ دليل على محو اعتقاده بهذا الانحراف العقلي، الذي يميّز بين الأقوام. كما وأنه يسوق ارادته الشعرية إلى خارج الإدانة والنقد المباشر لكل ما يرى ويعيش ويحس، بل يُقدم صورة هادئة لذلك:

(وليس سهلاً على الجسد الاعتراف

  أن لا تفاصيل عابرة تُروى

  فكل ما حولك يُصاغ بانتظام

  الأسهل أن تطمر دماغك)

ولكي يربط هذه الحالة بأُخرى نقيضة يقول:

(وألا تنشغل بصوت شهقة جثة مررت بها

  مثل صورة تذكارية لرب أُسرة كُنيته "حيرة العيش هناك )

ويقصد في الوطن المُغادر. إن مثل هذه العيّنات الشعرية تخللت القصيدة، بوصفها تعكس موقفاً من الأوضاع الجارية في الوطن. وهو نقد منبعث من ذائقة شعرية، وليس من موقف سياسي محترف الحوار والمداولة. الشاعر لا يقف على الحياد، إلا خلال موقفه الشعري عبر التزامه بمقومات الشعر لا اللغة السياسية التي تحتمل الكثير من الزيادة والنقصان. لغة الشعر مختصرة، دالة ومؤشرة بفنية عالية.فموقفه من نتائج الحرب على طول امتدادها في الوطن، يأتي بما يُدين الظاهرة التي تودي بحياة من لا مصلحة لهم في الحرب بقوله ملخصاً :

( "ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا بل....")

وبهذا شكّل الموقف دون استحضار لغة ذات بُعد نقدي مباشر. ولكي يقترب أكثر من مجريات الزمن، يوجه خطابه الشعري باتجاه ظاهرة المرض السياسي (الانتهازية) دون أن يعلن أيضاً عن هذا مباشرة :

( تلاقت ذئاب كانت منّا ذات يوم

 نحن طرائدها في الجنة والنار..(

لعل هذا يُحيل أيضاً إلى أفعال تلك الذئاب المسعورة، التي حوّلت الكرادة إلى مصهر بشري، وموت جماعي. هذه الصورة تُعاود حضورها في ذهن مدينة نيويورك، لا لشيء سوى عكس ما تحمله ذاكرته من مطابقة لحدث المجمع التجاري، الذي اصبح أيضاً مصهرا للبشر :

(المكان البغدادي الكرادي / بعد آلاف الساعات في ألـ ق من  2012موديلاته الجديدة تفحمّت / الباعة فيه تحرقوا/ ومن اشتريت منهم الـcoatالأُخوة مسعود وحسن ومصطفى ماتوا ألف مرة وما استراح منهم الموت / الملائكة تخدّرت وأقدار الثلاثة انقلبت..)

لقد انسحب الشاعر إلى أكثر المواقع حساسية اجتماعية وسياسية، لكنه بحذر مستمر من الوقوع في المباشرة أو السهولة النثرية، عمد إلى الاهتمام بشعرية الكلام، ورسالته في تأشير ما يريد تأشيره ولو باقتضاب فني وجمالي خالص.

الشعر والرسم

لا بد من العودة إلى مقولة "الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت" لنؤاخي بين ما احتواه الديوان من كلام شعري، وما رفده بتخطيطات للفنان( كريم رسن)، الذي عُرف من خلال لوحاته، خاصة التخطيط منها الاقتراب من حلم الطفولة وانطباعاتها. فالتخطيطات ساهمت كما الشعر في تدوين صوري لكل ما عكسه الشعر، برؤى فنية، هي أقرب إلى الأحلام  خلال حمولاتها ذات النَفَس المجرد والقريب من تصورات براءة الأطفال. إن الفنان(رسن) جرّد المشهد من تفاصيله، ومنح الشعر تفاصيل أُخرى في جملة إشارات فنية قادرة على تبسيط صور الظواهر المتفشية في الواقع. لذا فلازمة الفن مع شعرية المحتوى سارتا بخطين متوازيين، يلتقيان في المعنى العام، ويفترقان في اختصاصاتهما.

عرض مقالات: