(
تابوت وسط المسرح ورجل جالس بجانبه يمسك بالهويات ويقامر بها فوق التابوت هو يتحرك برعونة وضحكات عالية، وفي الجهة المقابلة طاولة فارغة وعلى الجانب الآخر طاولة روليت تحركها النادلة بين وقت وآخر حسب اللاعبين، موسيقى جنائزية).
المجنون: ( وهو يلعب بالهويات) امرأة، شاب، شيخ ...شيخ! لا خير في وجوده (يرميه أرضاً مع ضحكات عالية). تُحرق الأوراق ليكون الجو دافئا ... النيران ممتعة لمن يشاهد احتراق الورق فيها... كم هي شهية رائحة الشواء! كم هي مسلية تلك اللعبة.
النادلة: أراك تحدث نفسك.
المجنون: بل أحدث أوراقي، شعبي المخلص.
النادلة: مجنون
المجنون: تعرفين أجمل ما في هذه اللعبة أنك تمتلكين أقدار الأوراق.
(
تقترب النادلة من الرجل بفضول، يلقي المجنون الهويات أرضا ويضع نظاراته على عينيه وكأنه يتغير من شخصية المجنون إلى المفكر): نادلة جديدة ... نادلة جميلة نحن في تطور دائم.
زودينا من حسنِ وجهكِ ما دام .. فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ
وصليِنا نصلكِ في هذه الدنيا ... فإنّ المقامَ فيها قليلُ.
النادلة: تفضل سيدي ما طلبك؟
المفكر: قليلٌ من الخمر وكثير من عسل الشفاه.
النادلة: سيكون الطلب عندك بعد قليل.
(
يرمي النظارات يعود الى جنونه يوزع الهويات مرة أُخرى وكأنه أمام لاعبين): هذه لك وهذا لي...أنت تحرق وأنا احرق. (تحرك النادلة طاولة الروليت مع موسيقى لنشرة الأخبار).
صوت: في سابقة خطيرة وردنا الآن ما يأتي: تم العثور على جثة السيد طرفة مقتولاً في أحد أزقة المدينة، هذا وشوهدت جثة امرؤ القيس مرمية على أحد الارصفة في العاصمة، وراح مالك بن الريب ضحية للحرب.( إظلام المسرح إلّا من بقعتي ضوء حول الشخصيتين، تمسك النادلة بالميكروفون وتقترب من الرجل الذي يحمل حقيبة سوداء في تحول الى رجل السياسة)
الصحفية : ما تقول بشأن الأحداث المتصاعدة أخيراً؟
السياسي: في الحقيقة هناك أجندات خارجية تحاول زعزعة الأمن والاستقرار، لكن الواقع غير ذلك فالأمن مستتب.
الصحفية: هل تعتقد أنّ القتل ممنهج ضمن ايديولوجية محددة، لا سيما إنّهم من فئة محددة؟
السياسي: كما قلت هم من فئة محددة، لاهمَّ لهم سوى القراءة والشعر.
الصحفية: ولأنهم كذلك اغتالتهم الأنظمة؟
السياسي: (يحاول اغراءها) أرى إنكِ ذكية جداً، وأنا أحتاج الى أمثالك ضمن فريقي، فقط اجلبي مقدساتك الأربعة وسأتكفل بتوظيفك.
الصحفية: حالاً سيدي (تترك الميكروفون، يضاء المسرح وتعود إلى شخصية النادلة لتحرك الروليت) مساكين أولئك الرجال. (يترك الحقيبة ويرتدي النظارات).
المفكر: أتعرفيهم؟
النادلة: هم من رواد هذا المكان.
المفكر: يرتادون هذا المكان؟
النادلة: نعم أعرفهم جيدا، فهذا أولهم طلب الزواج مني أكثر من مرة لكني أردت الزواج برجل عذب اللسان والمقتول لا يجيد الكلام.
المفكر: (بسخرية) نعم فعلا فامرؤ القيس لا علاقة له بهذا، يبدو أنكِ على دراية بهم جميعاً.
النادلة: ومالك كان ثرثارا ..كثير التغزل بمفاتني.
المفكر: وطرفة ابن العبد أتعرفيه؟
النادلة: لا أذكره لكن ربما ان رأيت ملامحه تذكرته...اظن أنّه بائع الجرائد القديمة على ناصية الشارع... لكني أذكر أن مسمى كهذا قد ذاب عشقا بي.
المفكر: (بسخرية) علاقاتكِ متنوعة وثقافتكِ رصينة!
النادلة: شكرا... الغريب أنْ يٌقتل كل هؤلاء في وقتٍ واحد، أخشى أن يؤثر ذلك على رزقي المتواضع.
المفكر: لا تخافي ما دمتِ في المكان فالرزق لا يموت ... الجمال لا يموت.
النادلة: وأنت يا سيدي ما علاقتك بالجمال؟
المفكر: الجمال عندي أن امتلك الارادة، القوة.
النادلة: القوة في المال.. وأنا أمتلكه.
المفكر: كم من الوقت تمضين في كسب المال يوميا؟
النادلة: أُمضي نهاري في تنظيم أمور المقهى وفي الليل أقوم بالعمل كما تراني الآن.
المفكر: اذاً فللمال قوة امتلاكك... العبودية والجمال لا يتفقان.
النادلة: الجمال يأتي بعد استقطاب النقود، أما كيف؟ ومتى؟ أمور غير مهمة.
المفكر: أعتقد أنّ النقاش بيننا مصاب بالعقم.
النادلة: كلامك مملّ (تشير إلى إحدى الطاولات) حسنا سيدي طلبك جاهز(تمتم في أُذن الرجل) يوجد الكثير ممن يعتني بالجمال ويقدره. لا حاجة بي لثرثرتك.(تروم الذهاب إلى الطاولة الأخرى، فتتفاجأ بوجود التابوت): قتيلٌ آخر... يا إلهي...سيغلق المكان سينقطع الرزق..
المفكر: (يرتدي معطفا طويلا ويمسك بعدسة مكبرة ويقترب من التابوت في محاولة للبحث عن دليل، وتتبعه النادلة في حركات مماثلة مع موسيقى اوبرا كارمن لجورج بيزيه)... فيجد ورقة عليها ابيات لمحمود البريكان يتم قراءتها عبر الصوت): يجري تحت الصحراء المحترقة...تحت حقولٍ وبساتين ... وتحت قرى ومدن... يجري ... يجري(تقاطعه النادلة).
النادلة: القاتل نعم هو من يجري خوف أنْ يلحق به أحد.
المفكر: (ينظر اليها) القاتل ينتمي إلى هذا المكان.
النادلة: أراكَ تلوحُ براياتِكَ الصفر.
(
يتقمص الرجل دور القاضي بعد أنْ يقترب من المنضدة ويطرق عليه بالمطرقة)
القاضي: لماذا أردتِ التخلصَ منه؟ لم تنجحي في غوايته فقتلته.
النادلة: لِمَ تُوكل كل الجرائم بي؟ (بقعة ضوء مع اظلام للمسرح).
القاضي: اعترافك بالقتل يخفف عنكِ الحكم.
النادلة: لمْ أكنْ أحد ابنيّ آدم الذكور كي امتهنَ القتلَ.
وَأدَني ذَكَرٌ وضعَ في رحمِ امي نطفةً فاسودَ وجههُ وظلَ كظيم.
واغتصبَ براءتي ذكرٌ كانَ وليّ النعمةِ في العملِ.
تزوجَ بيّ ذكرٌ أجبرني على إقامةِ الفواحشِ معهُ ما ظهرَ منِها وما بطنَ
لكنهُ يُقيِم عليّ الحد إنْ تضرعتُ لله بعيداً عنهُ.
قَتَلَني ذكرٌ ألبسَ بويضاتي خوذاً ملوثة.
ومازالَ يعبثُ بيّ ذكرٌ يتشحُ بوكالةٍ من الربِ ليزُفَ رجالاً إلى مخدعي كلَ يوم.
كلهمُ عاقبوني لأني رفضتُ قيداً صنعوهُ على مقاسي.
ربما قتله أحد ضيوف المكان، وربما تكون أنت من قتله.
المفكر: أنا رجل أعتنقُ الشعر ديناً (يصعد على الطاولة)
النادلة: لكنِك منافسٌ شرسٌ له كذكر... مبارزٌ لهُ في نزالٍ هدفُه جسدٌ متمايل.
المفكر: (بغضب) لا تشترِ العبدَ إلا والعصى معهُ ...إنَ العبيدَ لأنجاسٌ مناكيدِ.
النادلة: (تصفق وتضحك باستهزاء) جميل أنْ يكونَ هذا رأي المتنورِ فكراً.
المفكر: أنا أعترض...اشجب...استنكر... فسلاحي هو قلمٌ وقرطاس، لم أكن يوماً بهذهِ البشاعة لأحمل سيفاً جارحاً.
النادلة: (باستهزاء) الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني والسيفُ والرمحُ...
المفكر: (يقاطعها) والقرطاسُ والقلمُ، إنّه الشعرُ يا صديقتي... للشاعر عوالم ينسجها خياله.
النادلة: أنا لمْ اقتلْ أحداً أنتم مَنْ قتلهُ .. جبناء.. مخّدرون بالمجدِ لا تملكونَ روحَ المقاومةِ، يغنيكمُ التصفيقُ والتهليلُ عن حياةٍ كريمةٍ لِمنْ حولكم، وها أنتم تفشلونَ في حمايةِ انفسكم والدفاعِ عنها.
المفكر: (يعتلي إحدى الطاولات ويمثل إلقاء قصيدة لطرفة بن العبد عبر الصوت، ومؤثر التصفيق والاعجاب)
النادلة: (ترتدي قبعة رجل الأمن غير مبالية بالقصيدة، تنظر إلى التابوت بتمعن ) هذه بصمات شخص غريب...ربما كانَ القاتل لصاً حاولَ الضحيةُ مقاومتِه.(يقترب منها المفكر وتضع على رأسه قبعة مماثلة، مع كلّ احتمِال تسقطُ أوراق من أعلى المسرح).
الرجل: هاهاهاهاها (ينزل من الطاولة)...أي حماقةٍ تعتري هذا اللص...وهو يسطو على رجلٍ يعيشُ دون الكفاف.
الفتاة: (وهي تبحث عن دليل حول التابوت) وجدتُها ... نعم كوبوناتِ النفطِ التي في خزانتهِ.(تسقط مجموعة أوراق).
الرجل: أو ربما ثروته من القصائدِ التي ظلَ يكتبُها منذ آلاف السنين. (تسقط مجموعة اوراق).
الفتاة: أي حماقة تعتري هذا اللص ليسرقَ أوراقاً لا تنفع ولا تضر؟
الرجل: ربما قتلهُ جيرانِهِ... بعد أنْ غاظَهم تعاليهِ وعزلتهِ عنهم.
الفتاة: أي حماقة تعتري الجيران وهم ينقضّونَ على جوادٍ منهكٍ مسلوب.
الرجل: أظنُ أنّ اهمالهُ هو قاتله فطالما تركَ الأبواب مفتوحةً.
الفتاة: أو ربما كان فاتك...أو سيف الدولة ...ربما الاخشيدي (يقاطعها).
الرجل: أو الطماع، أو المكعبر، أو أبو طبر ... فقد لمحت ظله قرب البيت قبل أيام. (تسقط مجموعة أوراق).
النادلة: (تضحك بصوت عالٍ، وهي تخلع القبعة) تتهمني بالقتل وكل المجرمين رجال (بغنج) نحن لا نقتل إلّا بلحظ العين. (تتراقص على المسرح، يخلع الرجل نظارته بعصبية، ويعود الى شخصية المجنون وهو يلملم بعض الهويات ويعود الى المقامرة بها مع حركات عبثية): تشعرينني بالضجر.
النادلة: (تأخذ منه النظارة وترتديها) ألم تعرف الحب يوماً؟
المجنون:( وهو يقامر بالهويات) الحب لعبة الفتيات التافهة..أمّا الرجال فخُلقوا للقيادة (يصعد على الطاولة كأنمّا يوجه خطاباً) أمّا والله فأني لأحمل الشر بثقله وأحذوه ..إنّي لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإنّي لصاحبها...والله لكأنّي أرى الدماء بين العمائم.
النادلة: كفاكم دماً وحروباً، أجعلوا من الحب نبضاً يسري في العروق.
المجنون: (ينزل عن الطاولة) الحب يجعل الشديد ضعيفاً...يقتل الرجولة.
النادلة: بل إنّ الحب يُطيل العمر ..حقاً حقاً إنّ الحب يُطيل العمر (تمسك بيديه وترقص معه)..حين نحس بأنّ العالم باقة زهر...حين نشف كما لو كنا من بلور ...حين نرق كبسمة فجر.
المجنون: (يتركها هاربا إلى الطاولة والهويات مغلقا اذنيه) هراء ...هراء.
النادلة: ألم يكن هؤلاء الشعراء عاشقين.
المجنون: لذا كانوا مستضعفين فُقتلوا.
النادلة: بل كانوا أقوى من قاتليهم، فمضى القتلة وهم باقون.
المجنون: اغربي عن وجهي لا أريد سماع المزيد (يعود الى اللعب بالهويات، تذهب لتحرك الروليت، موسيقى للنشرات الاخبارية).
الصوت: جاءنا توا ما يأتي عُثر على المتنبي مقتولا في العراء...في حين عُثر على جثة مقطوعة الرأس يُعتقد أنّها لأحمد آدم، فيما تناقلت أنباء عن مقتل البريكان في بيته، وفي خبر سابق فقد عثر على رأس النمرود مهشما قرب مدينة الحضر التي نالها نصيبها من الموت.. هذا وسنوافيكم بآخر التطورات لاحقا.
النادلة: سنبقى نودع رموزاً تحت ذرائع واهية... بطولات...انتصارات ...كرامة.
(
تذهب لفتح التابوت فيتحول إلى طاولة للقراءة ) انظر لم يمت احدٌ سوانا، لم يمت بشرٌ سوانا، أرجوك ضع يدك بيدي ولنصنع لأنفسنا حياة أفضل ...تعال نرقص ...نمرح ...نحصد الجوائز...نقرأ(تتحول طاولة الروليت إلى مكتبة، وتظهر على الشاشة مقابر شواهدها فارغة، تجمع النادلة الهويات جميعا وتضعها في كتاب، وما أنْ تفتح الكتاب حتى يتغير المنظر المعروض بالداتا شو إلى فيديو لشارع المتنبي): من الآن فصاعدا لا وجود للقمار للروليت للتدخين داخل هذا المكان سيكون شعارنا اقرأ باسم العراق ( يعود الرجل الى الطاولة وبدل أنْ يوزع الهويات يبدأ بتوزيع الكتب مع أغنية فيروز عن بغداد، وتنزل من أعلى المسرح شواهد على شكل دواوين للشعراء، تستقر على المسرح).
(
تعتيم)

عرض مقالات: