في كتابه الممتع (العمر والانجاز) يستعرض الكاتب "هارفي ليمان" عدداً من الاسهامات الإبداعية الكبيرة كدالة للعمر في العطاء واصفا الفترة المتوسطة من عمر المبدع على انها ذروة العطاء الابداعي وهذا الشيء ليس بالاكتشاف الكبير فالسنوات كفيلة بتراكم الخبرة واتساع مساحة الرؤية ونمو الخيال وانضاج الأدوات .
حَضرتْ امامي هذه الرؤية وانا اطالع مجموعة الشاعر"قاسم شاتي" (اتبعيني ايتها الفوضى) الصادرة عن دار تموز 2019 التي وجدتها من الرصانة كما هي الطبخة التي تنضج على نار هادئة فهي تجربة تحمل من الثراء وصفاء الرؤية والتجانس واكتمال الأدوات الشيء الكثير ويقف وراء ذلك تأني الشاعر في الاعلان عن شاعريته فهو على الرغم من علاقته المبكرة بالشعر الاّ انه لم يتعجل النشر والظهور على الساحة الشعرية الا بعد ان تعمقت خبرته ووعيه الانساني ومصادر تلقيه فأزاح الستار عن تجربته. اذن هي تجربة نضجت مبكرا ً الاّ انها ظهرت متأخرة وهو ما تشير اليه تواريخ قصائد المجموعة حيث يعود زمن كتابة بعضها الى مطلع تسعينيات القرن الماضي.
يكشف لنا عالم قاسم شاتي الشعري عن بانوراما انسانية ترصد واقعاً معقداً غارقاً في التناقضات والتشوهات يقابل هذه الصور المعتمة صورا اخرى مضيئة تشع بالتفاؤل والأمل بالقدرة على تجاوز متاهات هذا الواقع فعبر قصائد المجموعة يتنقل بنا الشاعر من دهاليز السياسة وظلمتها الى حدائق الحب وزهوها الى مفارقات التاريخ في ماضيه وحاضره وصولا الى حاضرنا الملتهب مخاطبا من تسبب بالخراب:
أيها السادة المزعجون، انكم الأكثر زرقة وحموضة، من ضحايا الحروب الباردة، ورعشة الضمير، فانزعوا اضافركم من رقية هذا الوقت، وامسحوا جيفكم من واجهات المدن الغاضبة، ليس هنا، سوى الرصاصة الاخيرة، وساحة التحرير.
والشاعر في العديد من قصائد المجموعة يحمل دفقا ًمن الحنين والوفاء لأرواح غيبها الموت وجلهّم من شهداء اليسار العراقي ناصر عواد، رياض لفته، جبار عليوي، حميد هلال، فاضل البغدادي، الذين نذروا أرواحهم قربانا للحرية وبالتالي استحقت أسماؤهم ان تتبوأ المكانة التي خصها بها الشاعر فللرجل الذي مات مشنوقا يهدي :
لك الماء والعشب الذي اشتهيته واقفاً
تحت جدارية جواد سليم
لك الشمس في عفتها
لك الأبدية
ولي صيف من الفصول
تحمل قصائد شاتي همّاً وطنياً واحساساً عارما بالغضب فهو شاعر انساني ملتزم ولصيق بهموم شعبه يفرح لفرحه ويحزن لحزنه ويرى في الساسة الذين يتلاعبون بمقدراته ما هم الاّ (حشرات غاضبة أشد رعونة من بعوض المياه الراكدة يختبئون وراء شحوب الدولار ) كما يستحضر عذابات التاريخ التي يجد صداها في عذابات الحاضر متسائلاً :
من طرد افلاطون وراء أسوار مدينته الفاضلة
وأدخل الكهنة والشحاذين والشعراء
من ألبس هولاكو رأس حمامة
هل استوقفتكم عبرات السهروردي
وحماقات ملوك الشام
ولكن هذا الاحساس العالي بمرارة الواقع لا يطفئ عند الشاعر جذوة الأمل بغد أفضل يسوده النقاء بعيد عن الزيف والنفاق:
كل الأمور تؤول الى أزمنة أفسدها التجار
وتقاسم ريعها سماسرة الأديان
لم يبق لنا ... سوى وردة حمراء
تقطعت خيوطها
بين عيون الكرخ والرصافة.
ان التناصات التاريخية والدينية التي ضمتها أشعار المجموعة تكشف عن استلهام الشاعر أحدات التاريخ وتوظيفها بشكل يتماهى مع أحداث الحاضر وكما وصفه الناقد د. رحمن غركان ( مسكون بالماضي في تجربة قراءته وليس رجوعا او ارتدادا ولذا تلد قصيدته الرمز التاريخي بوضوح ثابت) فهو يستعين بالرموز والوقائع التاريخية من أسماء القبائل والشخصيات وبيئة الصحراء والبادية للتعبير عن عمق المحنة وامتدادها ويأسف على العيش وسط عالم غارق في الجهل والنفاق:
فنحن من سلالة تحجرت
برأس واحد وشفتين
لا نجيد الحوار
كما لا نفهم شيئا عن تعاقب الليل والنهار
ان نظرة فاحصة لقصائد المجموعة تكشف لنا موقف الشاعر المتحضر من قضية المرأة ففي عدد كبير من القصائد يتناول المرأة سيدة ملهمة ساخنة قديسة يراها (أشد احتراقا من حمم الأرض) ويصف سحرها وجبروتها:
أيتها المرأة
أتعلمين
ان وجهك يختزل سماوات الله السبع
ويحترق امام غزواتك
أباطرة المجد
وقياصرة الروم
ان مجموعة "اتبعيني ايتها الفوضى" تتمتع بخصائص فنية وفكرية وتعبيرية تجعلها جديرة بالقراءة وتشكل اضافة طيبة للشعرية العراقية وقصائدها على الرغم من المسافة الزمنية التي تفصل بعضها عن الأخرى الاّ انها قصائد خصبة ظلت تحتفظ بحيويتها وهويتها وانحيازها الانساني.

عرض مقالات: