لندن – طريق الشعب (خاص)
في الخامس والعشرين من الشهر الماضي تشرين الأول ٢٠١٩ كان موعد الأمسية الشهرية للمقهى الثقافي العراقي في لندن والذي تزامن مع إستئناف الشبيبة العراقية لإنتفاضتها في الوطن ، وفي نفس اليوم كانت وقفة تضامن الجالية العراقية امام السفارة العراقية في لندن نظمتها مجموعة من منظمات المجتمع المدني كان من بينها المقهى الثقافي والذي وقع على مذكرة بهذا الصدد تطالب بالإسراع في تلبية مطالب المتظاهرين المشروعة
ادار الفنان غالب جواد الأمسية وإبتدأها بتمجيد شهداء الإنتفاضة والتمنيات لشفاء جرحاها وأضاف :" نحن معهم في مطاليبهم المشروعة " ثم استذكر غياب مبدعين عراقيين في الآونة الأخيرة :" بحزن وأسى نعى المقهى الثقافي العراقي في لندن مبدعين عراقيين متميزين هما الرائد المسرحي سامي عبد الحميد والكاتب الصحفي عدنان حسين ، نعاهدهما على ان نحفظ تراثهما الإبداعي الذي سيبقى حاضرا في ذاكرة شعبنا ومسيرته الثقافية ".
ضيف الأمسية الفنان العراقي المسرحي رسول الصغير وهو من مواليد بغداد عام ١٩٦٣ .. تحصيله الأكاديمي بكالوريوس اكاديمية الفنون الجميلة –جامعة بغداد ١٩٨٩وبكالوريس المعهد العالي للمسرح –فرع الإخراج (هولندا)٢٠٠٤وكان قد أسس في اليمن مهرجان المسرح المدرسي الأول في ١٩٩٤ وحصل على جوائز عديدة في مهرجانات مسرحية عديدة في العراق وخارجه .. عرض فيها مسرحيات كان فيها مخرجا وممثلا ومؤلفا واداريا .
غادر العراق الى اليمن حيث اقام فيه الفترة ١٩٩٢-١٩٩٦وقدم الكثير من الاعمال المسرحية علاوة على تدريسه لمادة المسرح في مدينتي المكلا وصنعاء ثم سافر الى هولندا وواصل دراسته فيها وعمل أيضا فيها مخرجا وممثلا لعدة مسرحيات وباللغة الهولندية .وانتقل الى بريطانيا في ٢٠٠٨ وعمل في مسارحها ممثلا ومخرجا واستشاريا .. وعمل في الكويت أستاذا للدراما في مؤسسة لوياكا الكويتية وواصل عمله هناك منذ ٢٠١١واخرج فيها عدة مسرحيات .
آخر اعماله مشاركته الآن في فرقة مسرح شكسبير الملكية التي تقدم مسرحية (متحف في بغداد) حيث يلعب فيها دور الشخصية العراقية (أبو زمان ) والتي ستستمر عروضها في مدينة ستراتفورد البريطانية (مسقط رأس شكسبير) لغاية كانون الثاني من العام القادم ٢٠٢٠.
بعد ان تلا الفنان غالب السيرة الذاتية والتي جاء فيها على معظم المنجز الإبداعي للضيف ، دعاه الى التحدث ، فكان حديث الفنان المسرحي رسول الصغير شاملا تطرق فيه الى رحلته في عالم المسرح مخرجا وممثلا واكاديميا ونأتي هنا على مقتطفات من ذلك الحديث :" اكرر شكري للحضور رغم حساسية هذه الأيام .. واعرف ان مواقفنا جميعا مع شباب العراق.. وكلنا نشترك في أملنا ان يعم الخير لوطننا وينعم أهلنا بالعيش الكريم والسعادة ..ووطننا يستحق السلام .. بلدنا الذي يحتل مكانة عالية بين الناس الذين نعيش نحن بينهم الآن .. لعراقته وكونه مهد الحضارة الانسانية .. فتجربتي الأخيرة بمشاركتي مع المسرح الأنكليزي جعلتني أشعر بالفخر تارة وأخرى بالخجل .. يبدو اننا لم تتح لنا الفرصة ان نفهم بلدنا كما يجب ؟ ولم نعرف لماذا يحبه الناس هنا كل هذا الحب وفي كل مكان ، بغض النظر عما حدث فيه من تقلبات سياسية وإجتماعية".
سأل مدير الجلسة الفنان جواد :" ما الأقرب الى نفسك الأخراج ام التمثيل؟"
- اكيد الإخراج .. انني لو كنت سياسيا فلا أقبل الا ان أكون رئيسا .. لقد فرضوا علينا ان نكون مهمشين .. انا انتمي الى عائلة معارضة على طول الخط .. انا مثلا عشت بخمسة أسماء .. فكلما تنتقل عائلتنا الى منطقة يطلق عليّ اسم مغاير ..كان الوالد نتيجة المطاردة والملاحقات يغير سكننا واسماءنا ..ولم اثبت على اسمي الأخير الا عندما سجلت في المدرسة الابتدائية ، في الثامنة من عمري ، حين سجلت في سجل النفوس لأول مرة .. هذا الضغط الداخلي كان يدفعني لأن أقدم نفسي وأبوح بما يعتمل في داخلي وهذا هو العامل الرئيسي الذي دفعني لأن أختار مادة الإخراج المسرحي في دراستي ، ومن هناك خططت لأن أواصل بعد التخرج كي أعمل ما وسعي لأن أكون مخرجا.. وكنت في كل اعمالي استثمر تجربتي الحياتية ..لم أستعر من الآخرين تجاربهم ..وكان العراق هاجسي والذي أعمل على ان يتجلى في جميع نتاجي
المسرحي ".
- ماهو الأختلاف في ان تكون مخرجا في العراق وبين ان تؤدي نفس العمل في البلدان العربية"
- دعني أطور سؤالك الى ما هي الفروق بين ان نعمل في المنطقة العربية والأوربية .. حين وصلت الى هولندا اتصلت تلفونيا باستاذي عوني كرومي وسألته : يا أستاذي الفاضل اليوم اكتشفت وانا أستمع الى محاضرة في الجامعة عن بريشت ، اكتشفت انك كنت تعلمنا مدرسة بريشت بشكل خاطيء.. ما سمعته من الهولنديين عرفت منهم بريشت آخر .. فضحك وقال لي نعم ..هم الأصح.. نحن لم نكن نستطيع ان نشرح لكم نظرية وأفكار بريشت وأهداف مسرحه .. وهذا ما يجيب على سؤالك ففي بلداننا تغيب الحرية فعندنا تابوهات تمنعك من ان تتحدث كما تريد في السياسة وفي الدين وفي الجنس مثلا..وهذا هو الفرق الجوهري بين ان تعمل في بلداننا واوربا .. نعم تنقصنا الحرية".
- ما الفرق بين المسرح والدراما التلفزيونية ، لا سيما انك شاركت في مسلسلات واعمال تلفزيونية في الفترة الأخيرة؟
- الإخراج المسرحي هو عمل علمي صرف ، انه بحث وتقصي واكتشاف ومخيلة ، مع الاعتزاز بالاعمال الدرامية فهي تصنع نجوما ( على الأخص الممثلين) وهذه المسألة لم تشكل لي طموحا .. عرض عليّ مؤخرا دورا في مسلسل عالمي يدر أجرا مجزيا لكن في نفس الوقت عرض عليّ ان أمثل في فرقة شكسبيرالمسرحية فأخترت الأخيرة لأنها هي التي ترضي ما أتطلع اليه .. فأنا أجد نفسي في المسرح ".
- في سيرتك الذاتية وجدنا ان لديك أيضا اسهامات في التأليف والكتابة؟
- عندما يعمل المرء في المجال الفني ، يضطر الى ان يمارس اجناس إبداعية أخرى ، هي تدخل كمكملة لعملك ، انا أحسد الشاعر او التشكيلي ، فعملهما فردي ، المسرح عمل جماعي ، فأنا حينما غادرت العراق كنت أعيش حالتين الاولى الغضب الشديد لكل المعوقات التي كانت تحد مني فيه والحالة الثانية اني جابهت صعوبات الحياة هنا ، فشكلت عندي تحديا .. وعندما انغمرت في الجو الجديد احسست بتوازن ..فعدت الى خزيني العراقي وهو الذي دفعني لأن اكتب عنه .. بالعراق عندما كانوا يطردوني من المسرح أتجه للكتابة للإذاعة .. في اليمن كتبت قصة والدي ووالدتي وعملت منها مسرحية.
- في ممارستك للعمل في هولندا ما هي الحصيلة التي جنيتها وهل تأثرت بأسلوب العمل هناك؟
- اول دور مثلته في هولندا ، ولم اكن اعرف الهولندية ، لكن جارتي كانت تلقنني الحوار ، وفي الدور كانت شخصيتي توجه شتائم للحائط ، وكنت حينها طالب لجوء لم يحسم قبولي بعد ، في (الجنرال بروفة) أي قبل العرض وجدت صورة الملكة معلقة على الجدار الذي ينبغي ان أوجه شتائمي له ، فأنسحبت واعتذرت عن تمثيل الدور ، استغرب الزملاء الهولنديون من تصرفي وإستفسروا عن السبب فقلت لهم ان قضية لجوئي لم تحسم وتريدون مني ان اشتم الملكة ، فازدادوا استغرابا، فبالنسبة لهم شتم الملكة لا يشكل جريمة ، وطمأنوا مخاوفي .. هذا ما تأثرت به حيث وجدت فسحة التعبير الرحبة
- المخرج يتعامل عادة مع الممثل ، فهو الذي ينقل أفكاره ، وانت تعاملت مع ممثلين عراقيين وعرب وأجانب .. حدثنا عن تعاملك ومعهم والعكس أي تعاملهم معك ؟
-في العراق عملت مع أسماء معروفة .. تعلمت منهم .. وأحفظ لهم تقديرا لدورهم في تكويني الفني .. نحن في العمل وفي مسار التمرينات في المسرح ، وعادة ما تدوم طويلا ، تخلق أجواء الألفة والثقة بين الجميع ، فيتم تلاقح الأفكار ، والروح الجماعية في العمل هي التي تؤسس التوق من الجميع لبذل الجهد في تجويد العمل .. يضاف الى هذه طبيعة شخصيتي المسالمة الهادئة .. أختصر ذلك بهذا المثال عندما جرى اعتقالي لأول مرة وقبل ان يبدأوا باستجوابي وليس تعذيبي قلت للضابط متوسلا :" انا لست سياسيا .. لاعلاقة لي بها إطلاقا انما والدي كان شيوعيا ....." . فالتفت الضابط الى أصحابه وقال أخلوا سبيله فلا خير منه فقد اعترف على ابيه .. لم اكن صداميا أينما حللت واحاول ان اعمل بحدود الممكن واتعامل مع الواقع وجمالياته وإظهار ما هو متاح .
- هل تأثرت بمخرج معين؟
- نعم تعلمت كثيرا من الراحل قاسم محمد ، على الرغم من انه لم يدرسني ، لكني عملت معه مساعدا في فرقة المسرح الحديث .
وعلى هذا المنوال ادار الفنان غالب جواد حديثه مع زميله الفنان الضيف رسول الصغير وبأنسيابية تلقائية تجاذبا أطراف حديثهما الممتع والذي تابعه الحضور بشغف هذا إضافة الى ان المقهى عرض على الشاشة الكبيرة مشاهد مصورة من الأعمال المسرحية للفنان الضيف منها مسرحية "سبيلات إسماعيل" و"ماكبث" وغيرهما .. وفي ختام الأمسية ساهم كل من د.عمر الصكبان ود. سعدي الحديثي والفنان التشكيلي علي جبار في مداخلات ركزت على موضوع الأمسية من جهة وتناولت تجربة الفنان الضيف رسول الصغير من جهة أخرى والتي أجاب عليها وطرح أفكاره ووجهات نظره بصددها .. وكانت أمسية شيقة أدخلنا فيها المقهى الثقافي أجواء المسرح المفعمة بالمتعة الجمالية وقد طافت الأمسية بأساليبه وخباياه عبر تجربة الضيف .