إن الدستور العراقي على الرغم من اختلافنا على بعض جوانبه، الّا انه كفل حق المواطن في حرية الرأي والتعبير والاحتجاج السلمي والتظاهر، وكذلك كفلته مبادئ لائحة حقوق الانسان، فمن الطبيعي ان يقوم المواطنون بالتعبير عن ذلك بالوسائل السلمية المتاحة، فكانت الاحتجاجات والتظاهرات تطبيقا وتجسيدا حيا نظرياً وعملياً لهذا الحق الدستوري والانساني والشرعي (الخروج على الظالم) كما ورد في كثير من النصوص الدينية والعقائدية .. ومن الطبيعي ايضاً ان تنفجر هذه الاحتجاجات الغاضبة والتظاهرات في الظروف التي يُغيّب فيها حق الانسان في العيش الكريم وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية التي تؤمن فرص العمل والضمان والرفاه الاجتماعي، وهذا الذي حصل للشعب العراقي الذي عانى الويلات والحروب والحرمان والقتل والتشريد والحروب وسوء الخدمات وزيادة الفقر والجهل وتردي الصحة وعدم توفير ابسط مقومات الحياة الرغيدة.
إن ثقافة الرضوخ للأمر الواقع وتبرير سوء الادارة بالتعكز على موروث بائس وقميء بحجة أن الحكومة قد ورثت من الديكتاتورية الشمولية السابقة دولة منهكة هي حجة باطلة لأنها (كلمة حق اريد بها باطل) لكي يغطوا على الفشل الذريع الذي ينبغي ان يتحمل الساسة الجدد مسؤولية وطنية في عدم النهوض والنماء والتنمية للبلاد في جوانبها ومردوداتها الاجتماعية والثقافية كافة.
إن ثقافة (التعكّز) هذه قد فشلت لأنها مصطنعة وغير منطقية، نعم لقد فشلت العملية السياسية وباتت (ديمقراطية عرجاء وربما خبيثة).. فثقافة الديمقراطية لا تعني حق التصويت والانتخاب فحسب وانما تعني ايضاً تحقيق العدالة الاجتماعية بكل ما تعني من معانَ تُسعد الانسان وتحرره من قيود الفقر والضعف والحرمان..
لقد عملت الحكومات العراقية منذ ٢٠٠٣ والى الآن على تفشي ثقافة حق التصويت والانتخاب فقط ..، ويا ليتها كانت بحق نزيهة وغير مزورة ولا تسعى الى انتشار الرشى حتى في التعيينات وشراء الاصوات والمناصب ولكن حتى هذا المفهوم للديمقراطية وحده (الانتخابي والتصويتي) مشوّه ومستند الى نزعات عشائرية وطائفية وعنصرية حيث جاء بعناصر غير كفوءة وغير مؤهلة للارتقاء بالعراق الى مصاف الدول المتحضرة ..
وهناك مفهوم خاطئ يتداوله ليس الساسة فقط وانما حتى المحللون السياسيون وبعض المثقفين للاسف وهو : ان ١٠- ١٥ سنة لا تكفي لتطور البلد ونمائه ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ... فأقول ان هذا المفهوم يكون صحيحاً لو كنا والعالم نعيش في قرون خلت .. حيث كان التطور البشري حينها بطيئاً جدا.. فمثلا اختراع الكهرباء، و الثورة الصناعية حصلت بعد آلاف السنين من حياة البشرية، بل حتى ان التطور الديني (مجيء الانبياء والرسل، المتواتر) كان على مراحل بين فترة واخرى مئات السنين؛ ولو نعد الانبياء منذ عهد آدم وحتى الرسول محمد لوجدنا انها فترة تمتد ربما لآلاف السنين ../ اريد من هذا ان اقول : ان امد التطور اختلف في الزمن الحاضر وان فترة ال ١٠- ١٥ سنة لا ينبغي ان تكون قصيرة كما الـ ١٠٠٠ سنة في العصور الغابرة، في حياة وتطور اي شعب من الشعوب حالياً.. لماذا؟
الجواب: لاننا في عصر السرعة في التقنية والتكنولوجيا والمعلومات والالكترون وفي مجالات الحياة الاخرى كافة ..
اذاً، فمرور اكثر من ١٥ سنة على تخلصنا من ديكتاتورية البعث كانت على ضوء ما تقدم كافية بالتأكيد لانتقال العراق الى مراحل متقدمة ومتطورة لو كانت هناك ارادة سياسية وثقافية وطنية مخلصة لانجاز هذه المهمة التي لم تكن عسيرة ابداً لما يتوفر في بلدنا من ثروات واموال وايدي عاملة وخصوبة ارض وانهار وفيرة.. ولكننا وجدنا العكس فقد تأخر العراق سنيناً كثيرة.. بل ولم يحافظ على بنائه القديم... وانما هبوط نحو التردي والتخلف.. وهذا وحده كافٍ لولادة جيل محروم يبحث عن لقمة العيش فلا يجدها الا في جيوب وافواه من سرقها واقتنصها جهّال السياسة وفاسدوها الذين لا تهمهم سوى مصالحهم الذاتية الانانية والحزبية المرتبطة بأجندات اجنبية تسعى الى إرضاء اسيادها الذين أتوا بهم لتنفيذ مآربهم واطماعهم للاستحواذ على العراق ارضاً وشعباً وثقافةً.. فكان اول اساليبهم هو تجهيل الشعب من خلال تردي التعليم فشاعت الامية وانتشر الايمان بالغيبيات المتخلفة والساذجة.
وكانت نظرية اولئك الساسة هو التجهيل ثم التجهيل وفي ظنهم الخاطئ ان ذلك سيخلق جيلاً يمكن جره بسهولة لبئر اجندتهم المظلمة بالطائفية والعشائرية والعنصرية .. وهم بهذا سوف يبقون فيما بينهم متحاصصين يتداولون نفايات سلطتهم باسم الدين والطائفة او المذهب ..
ان هذا يحيلني الى قصة مَن اشترى مسدساً ليلقى به عدوه فانتحر به ... او الى اديسون مخترع الكهرباء (مع اختلاف التشبيه طبعاً) الذي اماته اختراعه فيما بعد. اي النافع الضار لأولئك الساسة قصيري النظر والرؤيا ..
اجل لقد ولد لنا جيل او لنقل تمخضت سنوات الجهل والحرمان عن ولادة جيل (التك تك) العظيم، نعم اقول (العظيم) في الموقف التاريخي الوطني الشجاع .؛ كان مُغيبا في عقل السياسة العراقية برمتها بل وحتى الثقافية ايضاً ..غير انه كان حاضرا مدهشاً اخاذاً لجمال جموحه وطموحه لصنع وطن جديد او لاسترداد وطن او للبحث عن وطن او (يريد وطنا) كما عبروا عنه وعبرت عنه هتافاتهم واهازيجهم الجميلة والاصيلة بحداثتها وجرأتها مما اشعل لهيب الحقد والغيض في سبابة الحكومة قبل عقولها فاطلقت عليه رصاص الغدر دون ذنب او جناية مخلة بشرف الوطن وسيادته..
• ... بل ان (جيل التك تك) كان مُغيبا قسرا وجهلاً كما ان الخريجين منهم كما تعايشت معهم قبل سنوات قليلة هم بعيدون عن (القراءة) كما نقرأ نحن الادباء مثلاً لكنهم بغريزتهم وفطنتم الذاتية وبساطتهم الذكية والنقية قد وعوا وادركوا ان الحرمان قد سلبهم وطنهم وكرامتهم ... وادركوا ان من حقهم ان يعيشوا بكرامة وطن كامل السيادة وغير مسلوب الارادة.. ان ينعموا بخيراته التي وهبها الفاسدون لأنفسهم واسيادهم واتباعهم مقطوعة من حق المواطن ولقمة عيشه.
• واود ان اشير هنا ان التظاهرات والاحتجاجات لم تكن وليدة اليوم ولم تأتِ من فراغ فهي كالوليد الذي كبر في شباط ٢٠١١..، وما تلتها من سنوات الخوف والحذر من عدو صنعته مؤامراتهم ..، وهي تحمل ذات الاهداف والمطالب المشروعة وان ازدادت واتسعت بسبب تراكم الفشل الاداري والسلوك الفكري لقمة الهرم السياسي في الرئاسات الثلاث/ وكان للمثقفين الوطنيين من كتاب و فنانين وشعراء مدنيين متطلعين لدولة مدنية.. مساهمةً كبيرة مباشرة وغير مباشرة في ولادة ثقافة الرفض والاحتجاج والتظاهر على الظلم القاسي الذي تعرض له شعبنا منذ عشرات السنين ..
• ان اغلب هذا الجيل لم يكن (يسارياً) بالمعنى الايديولوجي والعقائدي للكلمة ولم يكن (بعثيا) او (قومياً عنصريا). لأنه لم يقرأ لكارل ماركس او لينين او ماو تسي تونغ او ميشيل عفلق أو منيف الرزاز او مصطفى لطفي المنفلوطي والعقاد وجمال عبد الناصر وحسن البنا ولم يقرأ لمحمد باقر الصدر ولا نهج البلاغة لعلي بن ابي طالب كما لم يقرأ لابن تيمية والغزالي وابن رشد ولم يقرأ لسارتر وديكارت وهيجل والماغوط. وكثير غيرهم لم يسمع بهم، ولم يقرأ للقادة والثوار ولم يعرف الفلسفة الغربية والاشتراكية والرأسمالية بكل كتابها ورموزها. وانما كان بسيطاً بمأكله وملبسه وحياته وسلوكه ولكنه في محصلته الثقافية المتواضعة جدا (يسارياً مدنياً) دون شعور بضرورة فصل الدين عن الدولة وهو ما يطمح له ويتمنى هذا الجيل لأنه النظام الوحيد الذي يحرر الانسان من الانغلاق والغيبيات والجمود الفكري والدكتاتورية. اذاً فهو مخلص غير ميكافيلي كما يفعل ساسة اليوم بلا خجل أو وازع من ضمير.
• ولا بد من القول ان تظاهرات اكتوبر في العراق قد شكلت انعطافة تاريخية مهمة في حياة شعبنا العراقي المجيد. واذا ما تأخرت نتائجها الايجابية؛ فأنها قد أسست لولادة مباركة لدولة مدنية، لا بد ان يجني ثمارها شعبنا في وقت قريب لاحق. وسوف لن تفلح كل محاولات الترقيع الاصلاحي للسياسة الخاطئة التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة ووعودها الكاذبة من ان توقف مسار هذه (الثقافة الجديدة) التي يتحلى بها جيل اكتوبر البهي بكل معاني الجمال الفكري لطبيعتهم السيكولجية .. كما ان المحاولات البائسة في تكميم الافواه لن تجدي نفعا.

عرض مقالات: