كان يخطو باتجاه ساحة التحرير، هذا الشاب الذي يردد مع نفسه أغنية لا يسمعها أحد، لكنه كان يسمع صخبها وما تقوله كلماتها، التفت يمنة ويسرة وجد مئات الشباب يسيرون باتجاه الساحة وهم صامتون، قال ربما كانوا يستمعون مثله إلى أغنية داخلية فآثروا الصمت على الكلام، الخطوات المنتظمة وغير الراجفة وهي تنسل بهدوء على الشوارع الفرعية، ستلتقي هناك، في الساحة بآلاف الأقدام الثابتة والرايات العالية المكتوب عليها الحرية للوطن.
كان يسير، وقد تذكر يوم امس عندما التقى صديقه الأثير الذي كان يلعب معه الشطرنج، وغلبه مرتين، انه هو الآخر يسير باتجاه ساحة التحرير، قال وردد ما قاله صديقه اننا سنجد الحرية هناك، وليس في رقعة الشطرنج، في تلك البقعة التي حباها الوطن أن تكون ملازمة لكل نشيد وقصيدة ولوحة، انها سجل لنضالات العراقيين قبل ان تكون ساحة فيها نصب الحرية، هذه الفسحة من المكان هي فسحة أمل، وفسحة نشيد وقصيدة، واعاد الكلام الذي قرأه يوما في أحدى الصحف أن ساحة التحرير وجدت كي تكون ملاذا لكل من لم يجد له مأوى، انها الأرض التي اقترنت بخطوات لافتة سياسية لم تكتمل بعد، ووسط أناشيد المتظاهرين كان يستمع عبر صوت التاريخ القريب اصوات بائعات القيمر، حين يقترن صوتهن بالصباح وحولهن تحوم حمامات التحرير، تكون الساحة قد سقيت بنبض الشباب القادم من أطراف بغداد بحثا عن العمل.
في الطريق إلى الساحة وهو ينظر إلى حركة قدميه على اسفلت الشارع، ويردد مع نفسه بعض اشعار مظفر النواب وعريان السيد خلف، وجد ان الساحة مليئة بالطيور البيض، وأن اية خطوة باتجاهها تزيح من أمامه بقعة من ظلام، هو لا يرى الساحة الآن، ولكنه يرى كيف المسير إليها يزيح الظلام المخيم عليها، وردد مع نفسه مقولة استعارية متداولة" الظلمة تعادل الجهل والنور يعاد المعرفة" عرف عندها ان الفجر قد هبط على الساحة لينير وجود القادمين اليها بنور الحرية، فالساحة تعني الفضاء الحر الذي يكون السائر فيها مبحرا في فضاء المدينة التي يعلو نشيدها هذا الصباح، وجهه قفاه، ويمينه يساره ، يلتفت في كل الاتجاهات التي هي اتجاهات الآتين ليعبروا عن حقوقهم، وعندما وصل استلم راية صغيرة مكتوبة عليها الأغنية التي كان يرددها صمتا مع نفسه، فعرف أن الطريق إلى الحرية ليس إلا اناشيد الطفولة تلك التي تعلمها منذ ان فتحت الحياة عليه ذاكرة الفهم؛ من أن الحرية تنتزع ولا تعطى، وأن الدين ليس هو تلك التقاليد الصماء المكررة، بل هو الرؤية الباصرة للنفس، ولكنه امتنع عن مواصلة التفكير في المجهول، فها هي الساحة تنفتح أمامه ويزحف نور الفجر على جسدها الواسع ويرى الجموع تتحرك في اتجاهات متقاطعة، عرف عندئذ أن معنى أن يكون مع الجميع دون أن يبقى متفرجًا. ثمة شيء من النور يفيض عليه الآن وعلى من حوله، هكذا قال جوزيف كونراد في رواية "قلب الظلام" من أن النور معرفة. وكلما كان الحضور كبيرًا اتسع النور، وانحسر الظلام، وقلت تلك الأناشيد الذاتية التي صاحبته عند خروجه من البيت، الآن بدا يسمع أكثر من نشيد، واكثر من اغنية، فلم تعد ثمة موانع او سدود تمنع صوت الآخر من الوصول إليه. ومع ذلك بقيت بقع في ساحة التحرير مظلمة، لم يسأل لماذا لم يزحها نور الفجر، قيل له ثمة بنايات تمنع النور بفعل أن فيها من يتسلل إلى اقبية سرية مظلمة يحتلها جند الشيطان المدججين بالأسئلة والأقنعة، وهؤلاء لا يحبون النور فقط، لأنهم يعيشون في الظلام وقلوبهم لا ترى غير ذلك السواد الذي يغشي أعينهم.
شعر لأول مرة ان الساحة ملك له، وأن الحرس المدجج بالسلام يختبئ وراء اقنعة ومتاريس واسوار القلعة الموهومة، وعرف أن الحرية ليست كلمات بل مواقف، مصحوبة بنشيد الجسد والدم، وها هو يشترك دون حساب لأي مانع، الحرية هكذا لغة اقوى من لغة الرصاص، وحينما اكتمل الجمع وبدا الوطن نشيده على ألسنة المتظاهرين عرف معنى أن يكون مع الجميع ضد فئة منعت حتى الهواء من رئتيه، عندها شعر أن كمية الحرية ليست ألفاظا، بل ممارسة جماعية محددة بهدف.
هو في الساحة الآن في خضمها المجنون بالحرية، الأصوات متحدة، والأعين كلها مصوبة نحو فضاء العراق الذي ترسمه ايدي الشباب، بخطوات ثابتة على اسلفت الشوارع، وبالسن لا تهتف إلا بالحرية.
احس بعد فترة بشيء غامر يدخل مسامات جسده هو طعم ان يمارس الإنسان وجوده من خلال فعل يشترك الجميع فيه، الحرية ليست حاجة فردية، بل مسعى قد يكون محفوفًا بالمخاطر، وهو ما يعني ان المخاطر ليست بعيدة عنه، ومع ذلك، الجميع ينشد الأغنية التي كان يرددها مع نفسه، الأغنية النشيد.

عرض مقالات: