ان مسألة الثقافة ودورها الفاعل في حياة المجتمع وتقدمه وانهاضه ليست جديدة انما هي مسألة قديمة في حياة الشعوب والمجتمعات البشرية واحتلت موقعاً مهماً ومتميزاً لما لها من تأثير كبير وتناولها المعنيون والمهتمون بشؤون الثقافة من الاكاديميين والباحثين بالتقصي والدراسة وحصلوا على نتائج مثمرة وتوصلوا الى استنتاجات قيمة ومهمه يمكن الركون اليها والاعتماد عليها في دراسة ومعرفة اهمية الثقافة ودورها الفاعل في بناء المجتمعات على اساس التحديث والتجديد والتطوير للارتقاء بالإنسان والمجتمعات البشرية وصولاً بها الى اعلى درجات الرقي والتقدم هذا اذا كانت البلاد تعيش اجواء الحياة الديمقراطية ويسودها الاستقرار السياسي واوضاعها الاقتصادية والاجتماعية تتطلع الى الازدهار والتقدم.

اما اذا كانت البلاد تعاني الاضطراب وعدم الاستقرار كالتي شهدتها بلادنا واستمرت لسنين طويلة تعاني تحت وطأة الحكومات الدكتاتورية التي حكمت العراق والتي سعت بكل ما تملك من قوة وجبروت تأبيد وجودها في السلطة والحفاظ على مواقعها فوجدت هذه القوى ان ما يؤيد وجودها ويديمها هو سيادة الجهل والتخلف وشيوع الاوهام والخرافة ومحاربة اية اشراقة حداثة او بارقة تغيير فيما هو راهن لإدامة وجودها وتعزيز مواقعها في السلطة لذلك عمدت هذه الانظمة الدكتاتورية الى ابعاد القوانين وشرائح حقوق الانسان والدساتير وكل ما يبعث على الانفتاح والثقافة والتنوير بل اكثر من ذلك حاربت وبشدة كل من ينطق بالقانون والعدل والنظام ويشيع الثقافة والتنوير عدّتها محرمات يعاقب عليها قانونهم وذلك لإدامة التخلف والجهل في جميع مفاصل الحياة لأنها الاساس الذي يدعم بقاءهم واستعبادهم للناس.

وعلى مر العصور وتطورها خلال الحقب التاريخية المختلفة عرف الانسان بوصفه منتجاً للثقافة فهو الذي تمكن من خلال ابداعه ونشاطه من ان يبني ويعمر ويكتشف وينشئ الحضارات ويقيم المدن وفي الوقت نفسه فأن هذا الانسان هو نفسه من انتاج الثقافة فهو منتج للثقافة وهو وليد هذه الثقافة التي لعبت دوراً كبيراً في تطويره وجعله انساناً على قدر كبير من التحضر والتمدن ويتميز برجاحة العقل والسداد وسمو الاخلاق ومكنته من ان يفكر ويبدع ولكن من الضروري ان نعرف بان هذه الثقافة والتي تعطي للإنسان قدراً كبيراً من المؤهلات العقلية والعلمية، ليست مسألة جينات وراثية.. بمعنى انها ليست وراثية وانما الثقافة حالة  مكتسبة من البيئة والواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه الانسان وتلعب العائلة والمدرسة والوسط الاجتماعي وما يحيط بالإنسان من وسائل اعلام وانترنيت وتواصل اجتماعي كل هذه عوامل مؤثره في الانسان وتجعله مكتسباً لثقافته من وجود هذه العوامل التي تؤثر في بناء شخصيته وتكسبه القابلية والقدرة التي تجعله يتعاطى مع الواقع بروح علمية وعقلية لتغيير هذا الواقع بما ينسجم مع تطلعاته الحياتية ولأن الثقافة اصبحت اليوم عامل استقطاب مهماً بالنسبة للشعوب والمجتمعات الراقية والتي تنشد الراحة والاستقرار وتأمين احتياجاتها فاصبح الاهتمام بها كبيراً من قبل تلك المجتمعات لما تحمله من عوامل رقي وتقدم واغناء لها فأخذت تلك الدول تهتم بالثقافة من ناحية اعداد برامجها وخططها وتمويلها وصياغة اسسها والتشجيع في الولوج الى عالمها عبر اقامة المسارح وقاعات العرض والمتاحف ودور السينما والمنتديات واغراق الاموال عليها لان المجتمعات ادركت اهميتها وكونها تشكل عامل استقرار ورفعة لها واداة لتحصين ابنائها ضد الجريمة واشكال العنف والتطرف والتعصب والتشديد العرقي والطائفي وكل ما من شأنه ان يوطد السلم الاهلي والتعايش المجتمعي حتى تتفرغ تلك المجتمعات الى عوامل التنمية المستدامة والتي تتطلب الاستقرار والسلم والتعايش وخصوصاً في بلد مثل العراق يعاني ازمات ومشاكل عديدة لابد ان تكون واردات النفط سبباً لبناء ونمو الادمغة وتجذير الوعي المجتمعي لدى الملايين وليس اداة لجباية الاموال وتخريب الضمائر والعقول.

وهنا نؤكد بانه لا يوجد تحديد لمفهوم الثقافة بوصفها منتجة لقيم الجمال والابداع انما اقصد هنا الثقافة المجتمعية وكل من حمل عقلية التنوير ورفض الظلم واشاع المحبة والسلام ونادى بالعدالة الاجتماعية وتشرف بخدمة ناسه ومجتمعه سواء بالكلمة الصادقة المعبرة والجريئة او بالفعل الجهادي الخلاق ام بالعمل الصالح المفيد للناس فالثقافة عمرها ما كانت ولن تكون احتكارا لاحد او لفئة معينة او شريحة من شرائح المجتمع بل كانت مفتوحة تستوعب الجميع وافاقها واسعة بوسع مفهومها ودلالاتها الانسانية والمجتمعية.

ان عصر التنوير الذي تنشده جميع شعوب الارض للخلاص من ظلامية القرون المتخلفة هو عصر العلم والمعرفة والمنطق الذي احدث ثورة كبيرة في تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية والفكرية تفسيراً علمياً حقيقياً بعيداً عن تأويلات الخرافة والجهل فهو اذ ينطلق من مبدأ قدرة الانسان على معرفة ما يدور حوله بروح عقلية علمية فقد بلغ التنوير ذروته في القرن الثامن عشر حيث شهد ظهور فلاسفة كبار امثال روسو وفولتير وكانت الالماني وهؤلاء انتقلت افكارهم الى شتى انحاء العالم ومنها عالمنا العربي كمصر مثلاً حيث ظهرت مجموعة من اعلام التنوير الكبار مهدوا لظهور جيل استطاع حمل راية الفكر التنويري امثال العقاد وطه حسين وهيكل وسلامة موسى وغيرهم وفي العراق سطعت شمس التنوير في مطلع القرن العشرين واول من تأثر بهذه الحركة هما الشاعران الزهاوي والرصافي ومن ثم تأثر المثقف العراقي بالحداثة والتنوير بين اعوام (1920- 1958) رغم الافكار الظلامية والتقاليد البالية وسياسة الابعاد والتهجير والقتل فقد بقيت مهمة المثقف الاساسية هي انتاج الوعي وتنوير الناس حيث استحوذ الوعي على عقولهم وتحول الى قوة كبيرة استطاعت ان تفجر ثورة (14 تموز 1958) والتي هزت العالم. الا ان التنوير في عموم منطقتنا وخصوصاً في العراق لم يأخذ مساره الطبيعي والصحيح ولم يحدث التأثير المطلوب في المجتمع لجملة عوامل اهمها شيوع وتأصل الخرافة والجهل وسيطرتهما على عقول الناس فيما لم يكن التنوير مهيئا ومعداً للناس الفقراء والبسطاء انما كان مصمما للنخبة القليلة المهيمنة فلم يصل الى عامة الناس صاحبة المصلحة الحقيقة في اكتساب التنوير لتغيير واقعها والنظر الى العالم بروح علمية صافية فضلا عن قلة المدارس وشيوع الامية ووجود انظمة الحكم الدكتاتورية والمستبدة والتي ليس من مصلحتها ان يتعلم هؤلاء الناس وان يعم التنوير ليشمل الجميع لأنه يهدد مصالحهم ويفتح عقولهم لكشف زيفهم وتسلطهم على شعوبهم.

واليوم تقع على عاتق المثقفين حملة الفكر التنويري والعمل على انتاج الوعي لتنوير الناس وتحريك العقول لتغيير الواقع المزري فالمهمة اليوم وحسب مقولة ماركس لا تكمن في تفسير الواقع فقط بل المهمة تكمن في تغييره والثقافة بشكل عام هي بناء قوي يرتبط بالبناء التحتي المتمثل في الواقع الاقتصادي والماركسية تربط التطور الاجتماعي بالواقع الاقتصادي لذلك فأن الثقافة تغيرت اساليبها وتعددت برامجها فأصبحت الفنون والمعارف والآداب التي تمثلها بمختلف صورها واشكالها اصبحت تتبنى مشكلات المجتمع وتتصدى لمعالجتها وحلها لتخليص المجتمع منها على وفق الاسس السليمة وقواعد السلوك والمعايير العقلية الصحيحة.. اذاً فالثقافة لها دور كبير في التعامل مع مشكلات الواقع الاجتماعي والتي هي ضمن البناء الفوقي ومحاولة التأثير عليها بما يخدم المجتمع وتطوره فالثقافة وما تمثله من ابواب مختلفة لها وظيفة اجتماعية كبيرة تتمثل في معرفة الحقيقة واكتشافها وحث الناس لمعرفة واقعهم الذي يعيشون فيه وصراعهم مع سالبي حقوقهم ومستقبلهم لذلك كان ماركس يبحث لدى الشعراء والروائيين اكثر مما يبحث لدى الفلاسفة والسياسيين عن الرؤى العميقة التي تخدم الناس وتجسد دوافعهم المادية ايماناً منه بقدرة الثقافة والمثقفين بوصفهم الاداة التي تصنع التغيير وتبسط العدل والنظام والمساواة بين الناس.

عرض مقالات: