حمى (الدال) مرض نفسي شائع تظهر أعراضه عادة في المجتمعات الموصوفة بالتخلف، وذلك ناجم عن تراكم شتى صنوف المعاناة (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية والجنسية)، التي كابدها ولم يبرح يكابدها الإنسان في هذا النمط من الجماعات التقليدية، حيث تقمع الرغبات الطبيعية، وتخضع الإرادات الحرة، وتردع التطلعات المشروعة، وتنزع الكرامات الإنسانية، وهو الأمر الذي يوسم شخصيته العنينة بالتعطش الدائم لكل ما من شانه الإحساس بالتفوق والغلبة. ولعل من أكثر العوامل تحقيقا "لهذا الهدف العزيز – من وجهة نظر المجتمع وبالتبعية من وجهة نظر الفرد أيضا"- هو أن يسعى المرء جاهدا"وبكل السبل المشروعة وغير المشروعة للتسلل داخل حصون الدولة الإيديولوجية والبيداغوجية المعنية باختراق الممانعات السيكولوجية وتحقيق الهيمنة الثقافية، ومن ثم استهداف منافذ التعليم (الجامعي) وانتهاج المسالك التي تفضي لاحتلال مواقعه المتقدمة. ليس من باب الرغبة في طلب العلم أو الاستزادة من معين الثقافة أو الاستنارة بإبداعات الفكر كما قد يبدو – لا يمنع هذا الأمر سعي بعض الأفراد خلف تلك المقاصد السامية – وإنما بدافع نيل مغانم (الشهادة) العليا والفوز بلقب (الدكتوراه) الأثير لدى من يعنيهم الأمر!، حيث مرابض الجاه الاجتماعي ومصادر الهيبة الرمزية التي طالما كانت من أشد العوامل جذبا "لأولئك الذين أرقتهم مشاعر الإحساس بالنقص الذاتي وأقضّت مضاجعهم عقد الحرمان الاجتماعي.

ولعل هذا الأمر يفسر لنا بعضا "من أسباب استشراء ظاهرة تهافت العراقيين الملفت للنظر، ومن مختلف القطاعات الاجتماعية والمستويات الثقافية للحصول على اللقب التفاخري (الدكتوراه) بأي ثمن، وذلك بالرغم من إن الغالبية العظمى من هؤلاء المفتونين بإغراء الشهادة المذكورة لا يفتقرون إلى مصادر الغنى المادي والثراء المالي، لا بل إن هناك من يتمتع بشيء من الوجاهة الاجتماعية بين أقرانه، لاسيما وان انتماءاتهم الحزبية والطائفية وانحداراتهم القبلية والاثنية قد يسرت لهم سبل الارتقاء السريع لدرجات السلم الاجتماعي والوظيفي. وعندي – إن كان لي (عند) كما قال الجاحظ – إن الدوافع التي تكمن خلف تفاقم هذه الظاهرة، نعزوها إلى جملة من العوامل الذاتية والموضوعية التي اخترنا التطرق الى أبرزها ؛

الأول: العامل (الجغرافي / تاريخي) ويتمحور حول الخلفية القبائلية – وان شئت البدوية - الرابضة في لا وعي الإنسان العراقي بصرف النظر عن موقعه الاجتماعي ومستواه الثقافي، والتي لا تزال تؤطر مختلف أنواع علاقاته وأنماط قيمه ونماذج سلوكياته، وذلك بحكم تعرضه المستمر لفواعل المجايلات الثقافية والرمزية والمخيالية التي تملأ فضاءات الوعي الجمعي وتتخلل تضاريس الذاكرة التاريخية، حيث صيت المرء يقاس بسلطان (هيبته) الشخصية قبل أن يقيّم بمقدار (ثروته) الاقتصادية. خصوصا "إذا ما نظرنا إلى واقعة انه لا يوجد مجتمع من مجتمعات الشرق الأوسط يوازي المجتمع العراقي في استحكام نزعته القبلية وفزعته العشائرية، لاسيما وانه محاط بمجموعة من المجتمعات العربية التي لا تزال مظاهر (القبلية) شديدة الحضور والفاعلية، ليس فقط على صعيد الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فحسب، بل وكذلك على مستوى القيم والتمثلات والعادات والأعراف والسلوكيات. هذا فضلا عن التأثيرات (الطائفية) والإيحاءات (العنصرية) القادمة من دول الجوار الجغرافي.

العامل: الثاني (اجتماعي / نفسي) ويتعلق بمظاهر احتقان سيكولوجيا الأفراد والجماعات بكل ضروب الكبت المزمن للرغبات الطبيعية والحرمان المتوطن للتطلعات الإنسانية، الأمر الذي يدفع بالكائن الاجتماعي المقموع والمخصي للبحث عن تعويض مجز، ليس فقط على صعيد الإشباع المادي (الاستعراضي) و(التفاخري) فحسب، وإنما – وهو الأهم – على صعيد الإشباع السيكولوجي (العميق) المتمثل بتضخيم (الأنا) وعملقة قدراتها بغية التخلص من مشاعر الانمساخ والدونية. بحيث يصل الشخص المعني إلى (قناعة) زائفة مفادها إن ما حققه من (انجازات) وما اجترحه من (بطولات)، هو بمثابة المعادل الموضوعي المعكوس لنمط حالته الوجودية السابقة من جهة، ومن ثم يبلغ الرضا والتوازن النفسي كونه نجح في تسوية الحساب نهائيا "مع كل تلك الجروح والندوب الموجعة جراء تراكمات الكبت والحرمان من جهة أخرى. والمفارقة إن تبعات هذه الظاهرة وعواقبها لا تنتهي بمجرد حصول الفرد على مبتغاه ونيل مراده، ولكنها لا تلبث أن تستحيل إلى ما يشبه (المرض) النفسي الذي يبتلي شخصيته بلوثة (النرجسية) والشعور بالتعالي، لاسيما وان البيئة العائلية الحاضنة، والعلاقات الاجتماعية المحيطة، والقيم الأخلاقية السائدة تساعد على ذلك، إن لم تكن تؤيده وتشجعه.     

العامل الثالث (ثقافي / قيمي) ويتمثل بطبيعة الأنماط الثقافية والقيمية المهيمنة في المجتمع الحاضن لهذه الظاهرة، من حيث تكوين الشخصية الفردية (اجتماعيا") وشحنها (قيميا")، لا يعتمد بالدرجة الأساس على مجموعة الخصائص البيولوجية (الفطرية والغريزية) للفرد – على الرغم من حضور دورها وطغيان تأثيرها في بعض الحالات - بقدر ما تتشكل وتتبلور وفقا "لما هو مقبول فيه (عرفيا") ومتواضع عليه (رمزيا") من لدن مكونات المجتمع المعني من جانب، وبما ينسجم مع السياقات الاجتماعية السائدة مكانيا "والأنساق الثقافية المهيمنة زمنيا" من جانب ثان. وهو الأمر الذي يفسر لنا الكثير من ظواهر الاختلاف في العادات والتباين في التقاليد، ليس فقط بين أفراد وجماعات المجتمع الواحد فحسب، وإنما بين المجتمعات الأخرى البعيدة جغرافيا "والمختلفة ثقافيا "والمغايرة حضاريا" أيضا".

ومن هذا المنطلق ينبغي ألاّ نعزو ظاهرة انهماك الفرد العراقي بالبحث عن كل ما يمت بصلة لمصادر (الهيبة) المظهرية والتعلق المفرط بأعرافها البالية وقوانينها الجائرة، لأسباب تتعلق (بشخصية) الفرد ذاته – رغم إن احتمال ذلك وارد – وإنما يستلزمنا البحث عن أصولها داخل الفضاءات (الاجتماعية) المشحونة بقيم الثقافات الفرعية، والمعبأة بأعراف الانتماءات التحتية، والمدججة بتقاليد الولاءات الهامشية، والمجيشة بتمثلات السرديات الأسطورية. أي بمعنى إن المجتمع (جماعات ومؤسسات وسياقات) هو من يزرع وينمي في شخصية أفراده بذور هذا النمط من السيكولوجيات الشاذة والسلوكيات المنحرفة، بحيث لا تجعل من كينونة كل فرد من أفراده بمثابة كتلة متأججة من الرغبات الجامحة التي تسعى خلف ذلك الحلم الثاوي بين طيات مخيلتنا كما الوشم الأبدي فحسب، وإنما تدفعنا للنظر إلى الشخص الذي واتته الظروف وأسعفه الحظ – بصرف النظر عن الكيفيات المعتمدة - في تحقيق هذا الهدف / الغاية، كما لو أنه نجم اجتماعي يستحق أن يحاط بهالة من التوقير (القبلي) والتبجيل (الطائفي) والتمجيد (العنصري)، خصوصا "حين يكون المعني مدعوما بأصول عشائرية مسيطرة أو مرجعيات مذهبية مهيمنة أو أرومات اثنية طاغية.

والأسوأ إن معظم مؤسسات الثقافية ومراكزنا البحثية التي يفترض بها أن تكون في طليعة من يتصدى لمثل هذه الظواهر من حيث النقد والتحليل والمعالجة، ومن ثم تسعى لأن تكون حاضنة لكل (مبدع) بصرف النظر عن مستوى الشهادة التي يحملها، عادة ما تنظر إلى الكاتب الذي لا يحمل تعويذة (الدال) نظرة ملؤها الاستخفاف بعطائه الثقافي والاستصغار لمردوده المعرفي. وهو الأمر الذي لا يوحي فقط للشخص المأخوذ بسحر اللقب (الأكاديمي) من دون مراعاة قيمته العلمية والفكرية، بان مضاعفة رصيده من مظاهر (الحظوة الاجتماعية) بين جماعاته الاثنية والقبلية والطائفية، مرهون بسعيه الدؤوب للحصول على شهادة (الدكتوراه) والتبجح بانضمامه إلى علية القوم فحسب، وإنما سيشجعه على التمادي في انتهاج كل المسالك والانخراط في جميع الممارسات التي من شأنها تحقيق مأربه، خصوصا "في حالة إن المؤهلات الثقافية والقدرات الفكرية التي يتوفر عليها من الضعف والتدني، لا تسمح له خوض مثل هذه المغامرة العلمية / المعرفية التي تستلزم مجموعة من الشروط الصعبة والمواصفات الصارمة. وذلك لإشباع مكبوته النفسي المزمن، وإرواء تعطشه الوجداني المتقادم إلى مظاهر (الهيبة) الشخصية وسلطان الاعتبار الاجتماعي.

ولعل الذي يراقب عن كثب أنماط العلاقات والتصورات والتصرفات لأغلب أولئك الذين حصلوا على شهادة (الدكتوراه) من الأجيال الجديدة – لاسيما خلال فترة ما بعد السقوط -سيلمس حقيقة وجود هذه الظاهرة السايكولوجية المقيتة ويدرك مدى تمكنها من العدوى والانتشار. لا بل إن معدل انتشارها بين هذه الشريحة (الأكاديمية) واستحواذها على اهتمام قطاعات واسعة من المجتمع العراقي، يزداد ويتضاعف بمقدار ما تبدو مريبة ومحل شبهة سبل حصولها على تلك الشهادة والتمتع بثمارها، سواء بأساليب (الغش) أو (التزوير) أو (الرشوة) التي باتت من الوضوح والشيوع في هذا الوسط الموبوء بالفساد، بحيث أضحت مادة للنقد والتهكم من لدن وسائل التواصل الاجتماعي الرسمية والشعبية، أو بواسطة التأثيرات الجانبية الناجمة عن (العلاقات) المصلحية المريبة و(المساومات) الشخصية المشبوهة، لاسيما بعد أن غزت مفاعيل المحاصصة السياسية كل المجالات والمؤسسات والفضاءات، للحد الذي تسببت بتضخم حملة الشهادات الجامعية العليا (ماجستير ودكتوراه) بإعداد هائلة، لا تتناسب بالمطلق مع حاجات الدولة في مضامير البناء الاجتماعي والإعمار الاقتصادي والنهوض الحضاري كما يزعم من جهة، مقابل انخفاض فاضح في نوعية وتدني مريع في مستوى عطائهم العلمي والمعرفي والمنهجي من جهة أخرى. وهو الأمر الذي ساهم ليس فقط في زيادة معدلات التأخر والتخلف في المجالات والقطاعات كافة فحسب، وإنما عطل لوامس الوعي الاجتماعي لدى معظم الجماعات في استشعار وطأة وفداحة الهيمنة الإيديولوجية والسيكولوجية التي تمارسها الأحزاب الدينية والعلمانية على حدّ سواء، وذلك لإبقاء تلك الجماعات والمكونات حبيسة نوازعها العنصرية والطائفية والقبلية، حيث التعصب في الذهنيات والتطرف في العلاقات والعنف في السلوكيات.

عرض مقالات: