الثقافة هي البارومتر الذي يقاس به تطور المجتمعات وهي تحصيل حاصل لتفاعلات تحتية لبنى اقتصادية وحركة صيرورة اجتماعية تنتج قيما روحية ومادية للمجتمع، هذه القيم تتفاوت من مجتمع الى آخر وهي تحدد مكانة البلد في سلم التطور الحضاري.. العراق يعاني ومنذ عقود من ازمة ثقافية حادة، هذه الازمة لم تأت من فراغ بل هناك عوامل موضوعية وذاتية هي من رسخت هذه الازمة وجعلتها في الفترة الاخيرة لصيقة بالمجتمع العراقي وأحد توصيفاته .. بعد ان كان العراق يتقدم المجتمعات العربية في تطوره الثقافي الذي انعكس في سمو الوعي الاجتماعي وفي العادات والسلوكيات الحضارية الراقية وتطور العلوم وسيادة المنطق العملي كضابطين لإيقاع المجتمع بحيث ان العراق كان من مبتكري الحداثة، منتصف القرن العشرين، في الآداب والفنون وفاعل ومساهم في حقول التجريب العلمي، وعلماؤه يشغلون الكراسي المتقدمة مع علماء العالم وفي الاختصاصات العلمية والانسانية كافة.. ان ازمة العراق الحقيقية هي ازمة ثقافية فبدل ان توظف امكانيات البلد لتطوير العلم والتعليم وقطاعات المجتمع كافة اتجهت الدولة في زمن النظام السابق الى افتعال الازمات والحروب مع بلدان الجوار واحترقت الممكنات المادية والبشرية مع نار الحروب وبدل ان يرتفع ايقاع الدرس في المدارس واصوات المكائن في المعامل دقت طبول الحرب من شمال البلد الى جنوبه ومن شرقه الى غربه ووظفت كل القطاعات لخدمة الحروب المتتالية فخرج البلد كسيحا ، مهزوما وابناؤه تفتك بهم الامية ويعيشون حياة لا انسانية وآخر الازمات الثقافية والوجودية القاتلة كانت في عام 2003 واحتلال الامريكان للعراق حيث تم القضاء على كل البنى التحتية الاقتصادية المنتجة للثقافة وهدمت المصانع وخربت الزراعة وتفشى الجهل بين ابناء المجتمع وبدل التقدم صوب الرقي والحضارة عاد المجتمع القهقرى الى احضان نمط الانتاج الزراعي وما صاحبه من انتعاش للعصبية القبلية وظهرت الى الوجود انماط من الافكار والسلوكيات الاجتماعية والعادات والطقوس الغريبة التي لم يألفها المجتمع العراقي والتي تم احياؤها من مستنقعات القرون الوسطى وعقائدها الخرافية وقد دعم هذا الامر نظام سياسي جديد فرضته القوى السياسية الدينية والقائم على المحاصصة الطائفية والعرقية وسياسيون أميون لا يفقهون شيئا في ادارة البلدان واخراجها من الضياع والتخلف الى الوجود والتقدم ، كل همهم هو الاستحواذ على المال العام واشاعة الكراهية بين ابناء المجتمع العراقي واشعال فتيل الطائفية والتي ذهب ضحيتها الملايين من الشعب العراقي .ان ازمة البلد الثقافية هي من ساهمت على ظهور داعش وقبلها القاعدة والحركات الاصولية وغيرها من الفصائل الدينية المتطرفة والتي خربت كل المدن التي احتلتها واستباحت حياة المواطنين وهتكت اعراضهم ، وقد دفع المجتمع للتخلص من هذه الآفات القاتلة اموالا طائلة وخراب مدن كاملة وانهارا من دماء الشهداء.. ان لم يتم تدارك هذه الازمة واسبابها البنيوية والعمل على بناء نظام سياسي مدني قائم على العدالة الاجتماعية وبناء المؤسسات الاقتصادية والقانونية والاجتماعية والتربوية الرصينة وسيادة القانون واسقاط قداسة بعض البشر وتقوية الدولة واخضاع الجميع الى احكامها وضوابطها فإن هذه الازمة الثقافية ستستفحل اكثر وربما ستؤدي الى خراب أعم وأشمل وتظهر داعش ثانية وبأسماء وسلوكيات بشعة جديدة عندها ستتعذر عملية الاصلاح وقد يذهب المجتمع الى الفناء والعدم ويتعذر علاجه وعودة الحياة إاليه..

عرض مقالات: