أنا من المؤمنين بأنّ الشّعر فنّ لغوي بالدرجة الأساسية، وأنّ قيمة هذا الشعر تتحدد من خلال الاستعمال الجديد للغة، لأجل خلق حالة من التوازن بين الطاقة الجمالية التي ينبغي للشعر أن ينتجها، والرسالة التي يود الشاعر أن يقولها.
أنّ ثمة عوامل أخرى في الشعر الحديث، مثل العنوانات، والتشكيل الموسيقي، والتشكيل الكتابي، ... تتضافر مع اللغة لخلق قصيدة جديدة، وأرى أنّ بعض هذه العوامل ثانوية أو مساعدة، فلو أخذنا التشكيل الموسيقي مثلاً، لوجدنا أنه لا يؤدي إلى الشعرية بمفرده، فلولا الاستعمال الجديد للغة لصارت القصيدة محض نظم ميت، لا أكثر.
وكما يسعى الشعر إلى خلق حالة من التوازن بين الحاجة الجمالية ورسالاته الأخرى، تسعى هذه المجموعة إلى إيجاد حالة من التوازن بين حاجات الفرد وحاجات المجتمع من خلال فعل الكتابة، ثمّ من خلال توظيف اللغة، ألفاظاً وتراكيب في إرسال عدة رسائل، لتؤكد حالة التوازن هذه، ولعل الشاعر هو من أثار انتباهي إلى هذه الناحية، ذلك عندما نظر إلى اللغة بوصفها جسدًا، قال في إمضاء بعنوان حفر:
/ أمسكوا باللغة .. حفروا وحفروا .. / نَسوا إنهم في جسدٍ/ يحفرون/ ص 63
ونرى القصيدة في هذه المجموعة تتحرك من خلال المدن والأمكنة التي عاش فيها الشاعر، لا المدن والأمكنة المعاصرة فقط، لكن تلك التي تشكل جزءاً حيوياً من تراث الشاعر الذي يمتد إلى عشرة آلاف سنة، كما سنقرأ في المجموعة عن عمر النهر (ص10)، لقد حضرت في المجموعة المدن : بغداد ، ومسقط، وسوق الشيوخ، والكرادة، ومن الأمكنة : شارع الرشيد، ودجلة ، ..، وتكاد مدينة مسقط تأخذ ثلث المجموعة، فقد جاءت في القسم الثاني من الكتاب بعنوان «من نسج البحر لي» .
قُسِّمت القصيدة الأولى للمجموعة «تعاليم الضد» إلى عدة مقاطع فرعية، يبدأ كل مقطع بصيغة فعل الأمر «اُكتُبْ» وتثير هذه البداية عدة تساؤلات؛ لأنّ فعل الأمر يعني وجود شخص ما يطلب بصيغة التكليف أو الطلب من شخص آخر إنجاز عمل ما، فمَن هو الشخص المأمور في القصيدة؟ الشاعر هو، أم القارئ؟ ومَن هو الشخص الآمِر، هل هو ضمير الشاعر؟ أم هل هو ضمير المجتمع بصيغته العليا؟ أم هل هو صاحب الوحي في النظرية الشعرية العربية؟ ولعل تعدد الإجابات عند القراء سيمنح هذه القصيدة الكثير من الحيوية، ويتشابه فعل الأمر «اُكتبْ» مع فعل الأمر «اِقرأْ» في أنّ كليهما قد صدر عن جهة عليا ويتطلب إنجازًا، ذلك أنّ فعل الكتابة يعني إيجاد توازن نفسي عند الكاتب، ناهيك عن التوازن النفسي الذي سيتركه هذا الفعل عند المتلقي. ومع تكرار فعل الأمر هذا سيجد الشاعر نفسه أنه قد مات وكأنه خيط في سجادة سحَبه الشاعر بنفسه: / حتى ترى أنك تأتي/ على آخر نسيج سجادةٍ/ ليست شيئاً آخر إلاّ/ جسدُك/ ص 12. أو يجد الشاعر نفسه أنه قد مات / صعد ليعانق الربّ/ ص 13عندما عثر على الأضلاع الأربعة للمثلث، وكأن الأضلاع الأربعة هنا تشير إلى حقيقة ما!
وليس الإنسان في هذه القصيدة سوى فأرٍ مختبريّ، يقول الشاعر: / أيّ فأرٍ مختبريَ أنتَ .../ بعد التجربة/ سترمى إلى المزبلة/ ص 27. أما أنابيب الاختبار فهي: / الأهلّةُ والصلبانُ/ أنابيب اختبار/ الأجساد فئرانُها/ ص 27. وكذا الكثير من الحروب التي قامت على أساس دينيّ، مستخدمة الإنسان، محاربًا أو عبدًا لتحصل على نتيجة اختباراتها.
وفي مقابل هذه القصيدة، نجد في المقطع الثالث من قصيدة «قيامة سوق إعرايبة» وقد تضمن هذا المقطع فعل الكتابة الذي يؤديه الشاعر بنفسه، لا عن طريق الأمر، وسنجد أنفسنا أيضًا بين فعل الكتابة وأفعال مؤلمة أخرى تجري في الواقع، وتثير القصيدة عدة تساؤلات : هل استطاع فعل الكتابة أن يصور هذه الأفعال المؤلمة أم إنّ الواقع كان أشد قسوة بحيث لا تستطيع الكتابة تصويره؟ مثل هذا السطر / الجثث تهذي طوال الليل لا أحد يقدر على إسكاتها/ أنا أكتب/ ص 57. لكننا سنكتشف في نهاية القصيدة أنّ الشاعر يكتبُ موته: / كفى/ أنا أكتبُ موتي/ ص 57 . وكأنّ الشاعر وهو ينفذ فعل الكتابة بنفسه، أو عن طريق الأمر من أجل التوازن، سيكون ضحية أو شهيدًا من أجل الاستقرار! وفكرة موت الشاعر هنا ليست هي الفكرة القديمة عندما يموت الشاعر بوصفه ثائرًا، أو محاربًا، أو متحديًا للآلهة، أو موتًا عدميًا، بل موت الشاعر هنا هو موته مثل أيّ مواطن يخرج صباحاً ليموت في الشارع بفعل العنف الذي يغطي المنطقة!
ويتكرر الموت في المجموعة بعدة صور أخرى، مثل هذه الصورة: / قفي أيتها الصحراء/ لستِ أوّل مبتكرات الجغرافية/ منذ 14 قرناً / وأنت تمشين فوق/ جسدي/ حتى لم يعد فيه متسع/ لخطوك/ قفي يا صحرائي/ ص29. وكأنّ الأنسان اليوم تسحقه أقدام الصحراء الزاحفة منذ قرون، وليست هي الحضارة الحديثة التي تسحقه كما صوره بعض الشعراء اليوم متأثراً بالشعر الأوربي الحديث! وليست الصحراء هنا مثل أيّة صحراء، لأنّ العمر الزمني الذي وُصفت به منحها شفرة الرسالة التي يودّ الشاعر إرسالها! وقد وردت الصحراء في أكثر من صورة خلال المجموعة، لتؤدي المجموعة رسالتها.
لغة المجموعة معاصرة، وقد وظف بعض الألفاظ التراثية، والصوفية، والشعبية، والأجنبية، مثل: «البراق، الباطن، البسطامي وجبته، الجريجورية، ميتروبوليتانية، غاغارين، الكوستر، الدشاديش، ...» وأنّ هذه المفردات استطاعت أن تعطي الصورة الشعرية وضوحاً أكثر، بحيث لا نجد أفضل منها لتصوير تفجير في شارع الكرادة مثلاً: /هذا الكوستر الطائر ليس براقا/ عرج ركابه أمس/ من الكرادة إلى سدرة المنتهى صعوداً فقط/ ص 79. ولعل القارئ الذي لا يعلم أنّ شارع الكرادة ممتلئ بعربة النقل هذه، سيدرك من خلال صورة «الكوستر الطائر» كثرة هذه العربة في الشارع .
واستطاع الشاعر أيضاً أن يوظف كلمات فصيحة من المعجم العربيّ، ولكننا نستعملها في اللغة الدارجة وكأنها من الكلمات العامية، مثل الفعل «نطّت» / قالت لي السمكة التي/ نطّت خارج الحوض/ ص 8. أو / الزّبالون أكثر جدوى مني/ ص 56. ولو أنه قال عمال النظافة كما نستخدمها في لغتنا الرسمية، لصدمتنا بنثريتها!! إنّ استخدام الشعراء لبعض الكلمات، وبعثها من جديد في صور شعرية مبتكرة، سيمنح اللغة الكثير من الحيوية والبقاء.
واختار الشاعر كلمة «نورسة» عنواناً لقصيدتين في المجموعة «نورسة بغداد» و «نورسة ثانية» وجاءت الكلمة في أربع مرات في القصيدتين، بوصفها أنثى طائر النورس، وفي الحقيقة لا توجد في العربية كلمة «نورسة» بوصفها أنثى الطائر، بل النورس فقط، للمذكر والمؤنث، ولكنّ الشاعر المبدع يستطيع أن يطوع اللغة لأداء وظيفة جمالية، وقد أوحت لنا هذه المفردة بالألفة مع المكان، إذ تمنح الأنثى للمكان طمأنينة وأمنا، وكل مكانٍ لا يؤنث، لا يعول عليه، كما يقول ابن عربي.
أما عندما غيّر الاسم الموصول من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع، فقد منحنا فرصة هائلة لنتصور أنّ الشهيد هو أكبر منا جميعا، قال في قصيدة «علي» / هم الذين خرجوا على الموت لنخرج نحن من الموت/ هو علي يوسف المحمداوي/ ص 90. وهنا أدّى الانزياح عن القواعد النحوية المقننة، وظيفة شعرية عالية، لن نستطيع بلوغها، لو أننا استخدمنا اللغة بقوانينها الاعتيادية، وليس كلّ شاعر بقادر على ذلك!
وتتحول الأحداث والأماكن، وينصهر الزمن لنراه على شكل هيئة جديدة، كما في قصيدة «مهرّب» فقد أعاد الشاعر كتابة حكاية الطوفان، بحيث يتساوى الزمن بين الحادثة والعصر الحاضر، ليصور لنا المهاجرين إلى أوربا بحثاً عن النجاة من بطش السلطات : / أمّا نوح فقد رأيته بأمّ عيني/ يخرج من ألواح التّوراة/ في هيئة مهرّب تركي/ ص 85. والشاعر المبدع وحده هو الذي يستطيع أن يبعث في الأساطير والحكايات والملاحم والنصوص المقدسة، روحًا جديدًا، كي يصور حادثة معاصرة.
ونجد في قصيدة «أوفيد» المهداة إلى «أدونيس» أنّ البركة التي رأى فيها «نرسيس» نفسه قد تحولت إلى بركة دم !! يقول الشاعر: /أوفيد هل جفت في مآقي نرسيس/ دمعتا الشرق والغرب/ مذ رأى وجهه في بركة دمٍ/ ص 100. ومن الجميل هنا أنّ الإهداء يذكّرنا بكتاب التحولات الذي ترجمه «أدونيس» وأنّ تحول بركة الماء إلى بركة الدم يعني تحول البشرية من السلام إلى الحرب!!
أما في قصيدة «الكرادة» فقد استطاع الشاعر أن يصور التفجير الذي حدث في سحور رمضانها، دون أيّ موجهات قرائية أخرى، مثل الإهداء، أو الهامش، أو التأريخ، فتثير الصورة ضمير القارئ عن طريق البناء اللغوي للقصيدة فقط، ويمكننا أن ندرك أنّ ضحايا التفجير لا ينتمون إلى دين واحد من خلال كلمتين لا غير، كما في هذا المقطع : / بلا أجنحة ولا أجساد/ لا يوقفهم بَرزخٌ/ لا مطهرُ/ لا وقت../ ص 79. فقد أدّت هاتان المفردتان «برزخ» ، و«مطهر» رسالة القصيدة بأقل عدد ممكن من الكلمات!
وفي قصائد المجموعة ومقطوعاتها إدانة شديدة للحرب من جوانبها كافة، يقول الشاعر في المقطع «نجوم» /عندما شبهوا الشهيد بالنجمة/ هللوا كبروا لنورها وعلوّها/ لم يخطر ببالهم أنّ النجوم تولد بأعدادٍ/ لا تحصى/ ص 65. لقد قال الشاعر هنا، بطريقته الخاصة، إنّ الحرب تخلف عددًا هائلاً من الشهداء، وهي خسارة للمجتمع بلا شك!!
ونجد في قصيدة «خارطة للألم الإيزيدي» عتبة إهداء «إلى نادية» وليس ثمة إشارة ما إلى أنها من الناجيات أم الضحايا، ولكن هذا ليس مهماً بجانب هذه المجزرة التي صارت خارطة للألم، ونجد في القصيدة إشارة أخرى إلى الصحراء: / أمطرت غيمة الدم الإيزيدي ليس على الجبال وغابات البلوط وحسب/ إنما فوق صحارى التأريخ الإسلامي كلها/ ص 50.
ونجد إشارة أخرى إلى الصحراء في قصيدة «النوارس لا تصلح» من خلال الصراع بين البداوة والحضارة، يقول الشاعر: / أعيد تركيب عقد الأحجار النادرة على صدر أميرتي السومرية/ بعد أن سرقه منذ قرون بدوٌ يعبرون حفاة جنائن المخيال العربي فوق جمل وحداني/ ص 45. ويبدو الشاعر هنا كأنه قد انتصر على البدو من خلال إعادة تركيب العقد على صدر الأميرة السومرية التي تعني الحضارة السومرية.
وفي المجموعة بعض المقاطع الشعرية التي لا تحتاج إلى إشارة نقدية ما؛ لأنّ هذه الإشارة ستفقد المقطع حيويته القرائية المشعة، كما أرى في هذا المقطع: / يمكنك أن تضع أجنحة/ على بغلة أليفة/ لتحمل الصحراء إلى سدرةٍ/ في الما وراء/ ص 15.
ولعل هذا المقطع «شطرنج» يوضح خلاصة موقف الشاعر إزاء الصراع بين الفرد والمجموع، أو بين الفرد والأعراف، أو بين الفرد والقدر، أو بين الفرد والسلطة، يقول: أحياناً أشعُرُ أني بيدقٌ في لعبة شطرنج / لكنّي / وحدي أحرّك نفسي/ ص 98.
ولأنّ هذه المجموعة تميزت بتوظيفها الدقيق والجميل للغة، مفردات وتراكيب، ناهيك عن التزامها برسم الهمزة، وتشكيل بعض الكلمات تشكيلاً صرفيًا ونحويًا صحيحًا، يرى الكاتب ضرورة الإشارة إلى بعض الهنات اللغوية التي وردت في المجموعة، وربما جاء بعضها نتيجة أخطاء طباعية، فقد رسم الشاعر فعل الأمر «اُكتب» هكذا : ( أكتُبْ ) وفعل الأمر هنا لا يكتب بهمزة قطع على الألف حتى لو ورد أولَ الكلام، بل بضمة على الألف فقط . أما في هذا المقطع: / اللغةُ / هي التي منحتك الأسماء / الغير قابلة للدفن/ بعد الموت/ ص 15، فوجه الخطأ هنا هو تعريف كلمة «غير»؛ لأنها ملازمة للإضافة دائمًا، وكان على الشاعر أن يقول : «غير القابلة للدفن»، ورسَم الشاعر همزة «إنّ» مفتوحة (أنّ) بعد القسم، في موضعين أو ثلاثة مواضع في المجموعة، وحقها الكسر بعد القسم.
أنّ الشاعر استطاع الإفادة من الأعراف اللغوية السائدة في عصره، ومن قوانين اللغة نفسها، ومن موسيقى الشعر العربيّ، لينتج قصيدة لها مزاجها الخاص، وتجربتها الشعرية التي تميزها عن باقي التجارب الشعرية التي اتخذت الموضوع نفسه في بعض الأحيان.
ـــــــــــــــ
* «في الطريق إليَّ» ، شوقي عبد الأمير ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 2019 م .

عرض مقالات: