ينصرف طالب مكي بكل طاقته، وهو يحمل هذا القدر الهائل من الحزن لموت استاذه، ليشيد حلماً جميلاً، ما من شيء يتموضع في هذه الكتلة الحميمة، المكتومة الأنين، إلا وتشير إلى تلك المسرات التي مرّت سريعاً في حياة جواد سليم الأستاذ، وطالب مكي التلميذ، التي أغتيلت في زمن لا لون له.

طالب مكي هذا الإنسان العابر من (الديوانية)إلى بغداد، المغرم بأوصاف الأرض العراقية، حين أراد أن يعلن عن هذا الحب، لم يستطع تحرير تلك العاطفة، إلا أن يذهب إلى نشوة الحلم في الرسم والنحت،بروح من ضفاف الشواطئ المحشوة بالطين، وهكذا بدأت رحلته الطويلة خلال أقاليمها وسهوبها واحزانها، فإستنطقها، وتحدث إليها وحاورها حواراً خفياً، ولوحده من دون معلم أو مدرسة، فكانت البداية على سطح المنزل في الديوانية،إثر زيارة له برفقة العائلة إلى كربلاء التي أيقظت فيه ألف رغبة، ليروي قصة الطقوس، وما تختزنه الإبتهالات والأدعية في ضريحي الإمامين الحسين والعباس، فشيد عالما من الطين بيديه السخيتين، بحوار من الصدق والعفوية وبلغة بسيطة جسّدها في التراكيب الطينية، مما أثار دهشة الوالد (مكي السيد جاسم) وإعجابه، دون إدعاء بقدرة الفنان الذي فقد حاستي النطق والسمع في مراحل طفولته المبكرة، فقرر حينذاك أن ينتقل إلى بغداد بوظيفته مديراً لمكتبات الإدارة المحلية العامة، ما أراد الأب المثقف لأبنه أن يحيا حياة المعاقين، مكسوف الجبين، وهو يكتشف هذا النسغ الجديد الذي سيقاوم به طالب ضعفه، تكفيه كلمة عطف وحنان تورق كل حياته، وجاء الوعد بقبول طالب في معهد الفنون الجميلة، قسم الدراسات المسائية،إستثناءً من شرطي الشهادة والعمر، وكان للقادم حضور بين جواد سليم وفائق حسن، وغيرهم من الأساتذة الرواد، وإستطاع طالب أن يفرض شروطه هو، بظل موهبة مختزنة في أعماقه، كان النحت يسكن فيه، والطين طوع بنانه، وجواد سليم يبارك فيه موهبته ومثابرته، ويتوقف عند مخيلته الواسعة، وأفكاره الجديدة، كان يسميه ( أسد بابل )، الرابض على قلب الأرض، الشامخ الذي يتطلع لكل شيء أمامه دون أن يتحدث، وفي دواخل طالب وهج الفنان ونبضه ودفقه المستمر، واعياً لهذا الفيض الذي يمتلكه، فمنح مكي عمله سمة المآثر، وينابيع الوجد ماضياً وحاضراً.

توطدت العلاقة بين الطالب وأستاذه، وتطورت، المعهد يصير له بيتاً، وجواد أباً ومعلما وصديقاً، يقطف من ثماره الحب والجمال والرعاية، يبتدىء النحت فيه، يراه مدناً تستفيق وتنهض شامخة، وفجأة يختتم جواد فصل حياته وأسفاره،بموت أفجع طالب وأرعبه، كان حزنه شديداً وعميقاً، لم يكن قادراً على إيقاف التأسّيات والدموع، غير ان الشاب الذي يحمل بين جانحيه موهبة فنان لم يستسلم للصدمة بل قابلها بشجاعة وتصميم، وعالجها بعمل نحتي لوجه جواد يعيد له هيبته ووقاره بعد أيام قليلة من إنتهاء مراسم العزاء،أراد طالب أن ينقل جواد من دائرة الموت إلى وجود الحياة، في ولادة جديدة لاينالها الزمن بنسيان، هذا البورتريت النصفي، أكبر من الطبيعي بقليل لمنحه المهابة والجلال، إستطاع طالب فيه أن يستوعب صورة جواد في تحولاته الوجدانية والفكرية، والنفاذ إلى أعماقه، وتحوّل مكان العمل في المعهد أثناء التنفيذ، إلى ملتقى لزملاء جواد، كانوا يتابعون طالب، في ذلك الفردوس،ويغريهم المرور به، والتطلع في تلك الشمس الداخلية التي بدأت تشع من بين أنامل طالب، ويجدون فيه مايردّ عليهم وحشة الغياب، ويعيد لهم وجه جواد محاطاً بحضوره الزماني، غير مصدقين بالموت حين يختصر الأجساد،فأعاد طالب يقظة الطين وبوحه الخفي، وسر الخالدين وإلهامهم السحري. يقف منصتاً جواره ولسان حاله يقول: الفنان هو الذي يبقى.

ثمانية وخمسون عاماً مرّت، والصورة مازالت نابضة بحالة الألفة الحميمة التي تجمع طالب بمعلمه، هذا هو السر في ديمومتها وحيويتها،وحين نشارك طالب لحظة التأمل في ما صنع، نرى في الوجه نبرة مضيئة تتصاعد من الداخل،وعالماً يذوب في الصمت والخشوع، وفي العيون بريق، تبدو كنجوم صغيرة لألاءة، ولغة تحاول إحتواء الممكنات، في وجه جواد تنبعث أشعة الحكمة نحو العالم الأرحب، ليصبح العمل نحتاً مقدساً يحيا ويزدهر، ووجه طالب يرشح حزناً يؤلف عالماً من الأسى،بين لهب الإبداع والتأمل الحزين، لكنه يحمل قدراً من الوفاء والمحبة والإكبار لأستاذه، والعمل يمثل أولى مراحل النضج الفني لدى طالب مكي، وأولى حالات التسامي في قدراته، وسبق له أن قدّم عملا نحتياً لإمرأة برؤى حداثوية نال اعجاب معلمه جواد، وشجعه على المضي في تلك المعالجات الجديدة.

 التمثال مازال في إروقة معهد الفنون الجميلة، مصنوعاً من مادة الجبس، وقد أعاد له النحات حميد الزبيدي الحياة،بعد أن تعرض لضرر كبير بسبب تفجير إرهابي أسود قريب من بناية المعهد عام 2006، هذه الحقائق تقودنا إلى دعوة وزارة الثقافة،ودائرة الفنون لإعادة الولادة المبدعة لهذا العمل الفني الخالد، وتحويله الى تمثال من البرونز في دائرة المصاهر التابعة للوزارة،وتلك مهمة نراها أن تظل ذات قدسية خاصة لجواد وتلميذه الوفي طالب مكي، قبل أن يندثر العمل ويتآكل.

عرض مقالات: