يعد الناقد والروائي ناجح المعموري من ابرز المساهمين في مجال الكتابة عن الأسطورة على الرغم من الدراسات الكثيرة التي بحثت في هذا الموضوع، ذلك ان نتاجه الأدبي في هذا المجال قد تجاوز العشرين مؤلفا وما كان اختياره لعنوان (الأطراس الأسطورية) في الشعر العربي الحديث لكتابه الصادر عن دار الشؤون الثقافية لعام 2019 إلا عن ذكاء متوقد ودراية خصبة ليكون المفهوم جامعاً ودالاً ومفصحاً، إذ ان ما جاء في معجم المعاني الجامع أن الطِرسَ بمعنى الصحيفة وبمعنى الكتاب الذي محي ثم كُتب، وهذا ما بَنت الأسطورة أساسها عليه عبرالتناص ما بين القديم والجديد بمعان مبتكرة في بنائها الفني وغناها المعرفي والفكري.
ان الحديث عن مُؤلَف ضخم يدخل ضمن الدراسات الأدبية ويتخذ فيه مؤلفه الأسطورة منهجاً يحاكي فيه عبر موضوعات مختلفة ثنائية الخصب والموات كما أشار في مقدمته التي بين فيها أن اشتغاله يكمن في بناء علاقة جوهرية ما بين الأسطورة والشعر ضمن تناصات اكتنفت تجارب شعرية مختلفة تناولها المؤلف على مراحل متباعدة، يذكر انه حاول فيها ان يقارب ويضيء اطراسها الكامنة فيها، قد تلزمنا الأمانة الأدبية ونحن نبدأ بقراءة الكتاب الإشارة الى ان هذه الدراسات التي بين ايدينا في هذا المنجز تشعرنا انها جزء من مشروع كبير كرس المعموري عمره في استكناه مدلولاته وتعقب إشاراته فكما يقول كافكا" الكتابة عبارة عن طرد الأشياء من داخلنا وهي نوع من تغميض العينين" وما ذلك الطرد سوى لتخفيف عبء المخيلة لكنه طرد محبب ينتج عنه ثماراً للمعرفة وازاهير للفكر، اما تغميض العينين فربما جاء مفسراً لذلك الانزياح عن اشتراطات الحقيقة ومحاولة للإفلات منها، وهذا ما جاءت به الأسطرة في جانب كبير منها من خلال تحليقها فوق الواقع عن طريق المحاكاة أو المجانسة أو المماثلة.
عندما ندخل الى صلب الكتاب نجده مرتباً ضمن موضوعات متسلسلة لا تخضع لنظام الفصول والمباحث وكل موضوع يأتي بعنوان دال على ثيمة الاشتغال داخله فكان الموضوع الأول (الأطراس الأسطورية في نموذجين من الشعر الأردني الجديد) وقد بين فيه المعموري ان الشاعر "جرجيس سماوي" حاول الاستفادة من الأطراس الأسطورية وحقق نجاحاً كبيرا في تناصاته مع الكثير من الرموز والشعائر محاكياً الخطاب الأسطوري الشرقي وصلة ذلك بنظام الخصب والتجدد والانبعاث مرة، ثم معكوسة في الحياة /الاندثار/ الموات الذي يخلف (حطب الكلام) وهو عنوان الديوان الذي نحن بصدده وبالتالي يؤسس هذا الحطب مولده وانبعاثه في فرصة لاحقة / وفي زمن الانبعاث الارضي، ولفظة حطب تتسع لقطبي الحياة وتتماهى مع الموات/العالم السفلي، وتؤسس محيطاً قاد مجموعة من العلاقات اللسانية/ الخطاب الأسطوري وتأشير الفضاء الذي انطلق منه وعاد اليه النص أي فضاء الديانات الشرقية القديمة، وقد تطرق المعموري لهذا المنحى ايضاً في موضوع ( رموز الخصب والموت في "خروج الاصدقاء" لدنيا ميخائيل) إذ انزاح التناص في ديوانها نحو اسطورة الموت، الخصوبة المعنية بثقافة الأم الكبرى والأسطورة السومرية وخلقها الاول للإنسان.
أما موضوع "يوسف ابو لوز والأطراس التوراتية" فالشاعر يأخذنا عبر مشاكسة مفاجئة كي ندخل الخطاب التوراتي مضمنا ذلك مقاطع عدة من اشعاره التي اتخذت من ابنة فرعون رمزاً للمنقذ في التاريخ والمخلص، على الرغم من صفتها الأنثوية فقد تحملت هذه الانثى تعبا كثيراً من اجل انقاذ موسى وتلك رمزية حازت على مركز جذب في النص، انه رمز الخصب والقدرة على تجديد الحياة، فما دام الصوت المعني قد ارتضى ملازمة ابنة فرعون ـ تلك السيدة التي انقذت بطلاً ودفعت بالحياة نحو الامام ـ فإنها تظل ممتدة، لتكون منظومة رمزية كاملة/ لها صلة فاعلة مع عقائد الحياة والخصب. ولكي يدعم المعموري اشتغاله لم يغفل الكثير من موضوعات التوراة التي جابت نصوص ابو لوز ومن ضمنها قصة يوسف والذئب وتأصيل وفهم لحجاب الجسد في ملحمة كلكامش ِبعدِّ العري تأسيسا ذكريا حديثا وهو مكمل للمتعة التي يحتاجها هذا الخطاب وليعلن من خلاله/ العري/ سيادته الكلية والكاملة على الانوثة، والتحكم بها لحظة ما شاء واشتهى.
اما نص البتراء فقد شابه المعموري بينه وبين حطب الكلام الذي تحدثنا عنه سابقاً ومنها ان الشاعر في حديثه عن جغرافية المكان انصب اهتمامه كثيرا على النبع كونه متحكما بالحركة والاستيطان وكونه اول شاهد على دخول موسى الى سيناء وبذلك اتخذ النصين في البتراء وحطب الكلام المسار الاسطوري/الديني من خلال هيمنة الانوثة والذكورة وذلك بِجعل النبع رمزاً توراتيا للانوثة وهو طرس حيوي استعانت به البنية الذهنية العبرانية كثيراً للدلالة على منظومة الخصب، وضمن هذا المسلك جاء الاشتغال على ديوان "اغمض اجنحتي واسترق الكتابة" لريم قيس كبة التي استثمرت تفاحة حواء وثيمة الباب والمزلاج في تعاملها الدلالي مع منظومة الذكورة والانوثة .
وقد اتخذ المعموري في (الناي والراعي في المخيال الشعري) نص الشاعر "حبيب الزيودي" وسيلة لبث اشارات عدة ومدلولات ثرية منها ان الناي رمز رعوي ارتبط بوثيق صلة مع الالوهة الشابة التي عرفت الموت المؤقت ومن بعده الانبعاث، ذلك ان للرعوية رموزها المعروفة والثابتة وأهمها العصا والناي ملفتا النظر الى التناظر الشكلي بين الاثنين حتى صارت العصا ببعض انماطها مماثلة للناي في الطول، وقد اقترن هذا الرمز بالإله دوموزي/ تموز وادونيس وصار ملازماً لهما وذلك لاقتران المرحلة السائدة آنذاك بالرعوية ومن المقاطع التي استدل بها المعموري:
في ناي الراعي
اصابع ظامئة للحب
ما مرت في بال الراعي
امرأة
الا فك بها ازرار الثوب
ومن الموضوعات التي شغلت المعموري (حكمة النوايسة والصعود الى الاسطورة) إذ اهتم بمناقشة اراء الدكتور سامح الرواشدة ومخالفته في تأويلاته التي تصب في اثبات المعموري لأسطرة الألوهة المؤنثة المتمثلة بالأرض، ومما شغله ايضاً توضيح تفاعل الأسطورتين الأغريقية والكنعانية في النص الشعري من خلال ديوان "عطش النرجسات" لسعد الدين شاهين، اما ديوان "قميص النار" فقد تناول فيه المعموري اشتغال الشاعر شكر حاجم الصالحي على فكرة الحب بين يعقوب وراحيل التي تركت ثوبها ارثاً لولدها يوسف بعدما خاطه الأب ليكون قميصاً لابنه وبذلك اصبح القميص معادلاً موضوعياً لطاقة النار التي اندلعت بين الاخوة، ومما تجدر الإشارة اليه ان مؤلف هذا الكتاب يعي جيداً اهمية اللغة وتأثيرها على الاسطورة فكشف في دراسته عن إعمال التناص بين النص القرآني والنص الشعري من خلال استشهاده بالأسطورة في الشعر الفلسطيني ومن خلال التطرق الى تجارب الشعراء(كاظم الحجاج وأديب كمال الدين وموفق محمد وماجد ابو غوش والمتوكل طه ومحمد ضمرة ووليد الشيخ وعبد الله رضوان) وجميعها تجارب تباينت بسبب اختلاف الوعي الفكري والفني لطرائق الاستفادة من الاسطورة والعقائد والطقوس وكذلك الشعائر الا انها ارتبطت بخيط الاشتغال على مغايرة نمطية الواقع ومؤثراته التقليدية من خلال الأسطرة.

عرض مقالات: